د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

اليوم التالي لتدمير غزة؟

استمع إلى المقالة

مع البدء الفعلي لغزو غزة برياً، كما حدث يومي وليلتي 26 و27، في شمال قطاع غزة وثلاثة مواقع وسط القطاع، مدعوماً بقصف جوي عنيف وآخر من قطع بحرية إسرائيلية وربما من جنسية أخرى، وهكذا فقد حُسم الأمر، نحن أمام عملية لتدمير القطاع ممنهجة ومدعومة من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى بزعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. والهدف المُعلن هو «مهمة وطنية لتحرير الرهائن»، حسب تعبير المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، والقضاء الكامل على حركة «حماس»، وإنهاء حكمها للقطاع، وبناء هيكلية جديدة للأمن بالنسبة للإسرائيليين، وفقاً لغالانت وزير الحرب الإسرائيلي، وإلقاء مسؤولية القطاع على آخرين، ربما الأمم المتحدة أو دول أخرى. أهداف بالجملة يتعذر تحقيقها، فقط تدمير القطاع هو ما يتم تحقيقه.

فبالرغم من النصائح الأميركية بالتريث، والتركيز على تحرير الرهائن أولاً، حسمت نخبة الحرب الإسرائيلية قرارها، وبدأت عمليتها البرية الموسعة مع قطع للكهرباء والاتصالات، ومن ثم يستحيل التحقق من عدد وحجم تقدم الدبابات على الأرض، وفي أي محاور، وحجم الدمار الذي تم تحقيقه وعدد الشهداء الذين سقطوا، وكم من الرهائن تم تحريرهم، وكم من مقاتلي «حماس» تم أسرهم أو تم قتلهم.

المؤكد هنا أن كل تلك المعلومات سوف تتضح لاحقاً، والمؤكد أيضاً وفي ضوء التدهور التام في الخدمات الصحية بالقطاع، وانهيار قدرات الدفاع المدني الفلسطيني، أن عدداً هائلاً من الشهداء الفلسطينيين، أطفالاً ونساء ورجالاً مدنيين، وآخرين من المقاتلين، سوف يبقون تحت ركام المباني التي دُمّرت تماماً بفعل نوعية القنابل التي استخدمت في حملة ليلة 27 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وما يتلوها من حملات انتقام أخرى، ومنها قنابل الفسفور الأبيض الحارقة وقنابل الأنفاق أو الأعماق، وكلها صناعة أميركية. ولا أحد يعلم متى سيتم انتشال جثث هؤلاء، وكيف سيتم التعرف عليهم، وكيف سيتم التعرف على جثث الأسرى الإسرائيليين الذين قضوا مع آسريهم في هذه الحملة، وما سيلحقها من حملات أخرى. ومع طول الوقت سيبدأ تحلل الجثث، وتنتشر الجراثيم والأوبئة، ويتحول القطاع أو أماكن واسعة منه إلى كارثة صحية وبيئية ستصيب حتماً مناطق إسرائيلية، بفعل الرياح.

وسيظل السؤال الأكبر فارضاً نفسه أيضاً؛ هل تم تحرير الرهائن بعملية عسكرية كالتي يتم تنفيذها بمشورة الخبراء الأميركيين؟ المؤكد أن كثيراً منهم قد قُتل سواء قبل العملية البرية أو بعدها، والمرجح أيضاً أن هناك إصابات نالت وستنال من الجنود الإسرائيليين ودباباتهم، تم إجلاؤهم بالطائرات المروحية تحت جنح الظلام، وفى تلك هزيمة كاملة لأحد أهم الأهداف التي أعلنتها نخبة الحرب الإسرائيلية، والتي بات عليها أن تتعامل مع غضب أهالي الأسرى الذين تأكد لهم أن نخبة الحرب لم تضع في اعتبارها أرواح هؤلاء عملياً، بالرغم من كم الصياح بالعمل على تحريرهم. ومن قُدر له البقاء على قيد الحياة ستتم مبادلته من خلال حكومة «حماس»، وتلك هزيمة أخرى ستكون لها تداعيات على داخل إسرائيل وخارجها. «حماس» بدورها ليست هي «حماس» من قبل، ستلاحقها عقوبات أميركية وغربية هائلة، قد تتغير ملامح قياداتها، أما فكرة ومبدأ مقاومة الاحتلال فلن تمحى. ومن قدر له الخروج من تحت الركام حياً، فلن يغفر ولن يتراجع.

الأيام فقط سوف تفصل في هذا المشهد العائد لما قبل القرون الوسطى، في زمن تتحدث فيه حضارات تعتقد أنها الأفضل والأرقى إنسانياً، ولا تكل ولا تمل عن إعطاء الدروس الزائفة عن حقوق الإنسان، وفي الوقت ذاته تقدم العون بكل أشكاله من أجل آلة قتل جهنمية لا تتوقف عن حصد الأرواح؛ بمن فيهم أرواح من يدّعي العمل على تحريرهم من براثن الاختطاف. وتلك بدورها إشكالية لن تُنسى ولن يمكن التغاضي عنها، حتى وإن توقف القتل المنهجي، فحقائق الدمار والقتل بدعوى الدفاع عن النفس، كفيلة بأن تكشف لكل حضارة عن جوهرها الحقيقي، أهي حضارة نفاق وخبث ومكر وإفساد، أم حضارة إنسانية تتمسك بأخلاقيات الحياة سلماً أو حرباً. لدينا في العالم العربي ومجتمعات أخرى عديدة تتسم بالشرف إجابات مسبقة ثبتت عملياً. والمهم أن يدرك الغرب جوهر حضارته، وأن يُحاسب نفسه أخلاقياً، وأن يعيد حساباته في ضوء ما خسره أخلاقياً ومعنوياً وإنسانياً. والظاهر أن تلك مهمة عسيرة والفجوة بين العرب وبينهم ستزداد اتساعاً.

الحرب كجزء مهم في حياة البشر لها أخلاقياتها وقواعدها، محفوظة منذ ألفي عام، وقبل معاهدات جنيف بألفي عام، كتلك التي سطرها صن تزو، المفكر والمحارب الصيني، مؤلف كتاب «فن الحرب»، القائل إن «أخذ البلاد سالمة هو أفضل من تدميرها، وأسْر اللواء المعادي، هو أفضل من تدميره، وإحراز مائة انتصار في مائة معركة ليس هو الأفضل، بل إن إخضاع العدو من دون قتال هو أفضل ما يكون». أين تلك القواعد فيما تقوم به إسرائيل بدعوى الدفاع عن النفس. ما بعد دمار غزة وحصد أرواح شعبها قتلاً أو تجويعاً وتشريداً، لن يكون كما كان من قبل. هكذا أكد الرئيس الأميركي بايدن ونخبة الحرب الإسرائيلية. ولكن يظل السؤال مفتوحاً، في أي اتجاه ستتحرك الأحداث؟ سوف تكون هناك محاسبة في الداخل الإسرائيلي، وسوف تختفي وجوه وتأتي أخرى. ومن غير المرجح أن الوجوه الجديدة قد تستوعب الدرس؛ درس استمرار المقاومة تحت أي اسم كان، طالما أن هناك احتلالاً واستيطاناً واغتصاباً لحقوق الغير. ما يجعل تدمير غزة وقتل شعبها مجرد جولة في صراع وجودي، تتلوها جولات أخرى إلى ما لا نهاية، وبعضها قد لا يمكن السيطرة عليه، ما يجعل مصير المنطقة ككل، بما فيها من مصالح عالمية كبرى معلقاً في الهواء.

ما بعد دمار غزة سيطرح بدوره مدى قدرة واشنطن والرئيس بايدن على إثبات قوة أميركا ودورها العالمي ليس بتشجيع الحروب والدمار، وإنما بالبحث عن تسوية سياسية تحقق حل الدولتين، الذي لا يتوقف بايدن ووزير خارجيته عن وصفه بالمسار الأسلم، لكن الخوف من فقدان دعم اللوبي الصهيوني، فلن تخرج الأمور عن طرح رمزي لتهدئة الخواطر، سيجر المنطقة مرة تلو أخرى نحو دمار أكبر.