د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

تونس وارتفاع الحرارة السياسية

عرفت تونس الأيام الأخيرة مظاهر جدية تؤكد وجود توتر سياسي عميق وأزمة لم تتحسن بعد. وإذا طبقنا المبدأ الذي يقول إن الذي لا يتقدم هو بصدد التأخر، فإن الواضح أن الأوضاع في تونس ازدادت تأزما كما عبرت عن ذلك مؤشرات عدة.
فالمشكل اليوم ليس فقط اقتصاديا، وإنما هو سياسي واجتماعي أيضا، دون أن يفوتنا أن العلاقة بين هذه الأبعاد عضويّة وسببيّة.
ففي الوقت الذي كان فيه الجميع يُخمن حول فحوى الخطاب الذي سيُقدمه رئيس الدولة، يتفاجأ الرأي العام السياسي باستقالة رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، ومعه اثنان من الهيئة، وذلك بعد أيام من تحديد تاريخ إجراء الانتخابات البلدية في ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
فالاستقالة المشار إليها شملت هيئة أشرفت على الانتخابات الثلاثة التي أجرتها تونس منذ تاريخ الثورة، والأولى كانت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011.
طبعا بالنسبة للانتخابات البلدية، ما زال أمام التونسيين سبعة أشهر، ويمكن إنقاذ الموقف، ولكن المفاجأة والحيرة والأسئلة في الاستقالة ذاتها وما تخفيه من أسرار، خصوصا أن كلام رئيس الهيئة المستقيل السيّد شفيق صرصار كان غامضا، وأشار إلى أن الاستقالة نتاج مواقف تمس بشكل حقيقي مبادئ المسار الانتقالي الديمقراطي. أي أن الأسباب تبدو سياسية الجوهر والمنطلقات، الشيء الذي جعل رئيس الهيئة ونائبه وقاضية يختارون الاستقالة كحل اضطراري.
إذن بكل المقاييس، فإن هذه الاستقالة سيئة الدّلالات والمعاني، ولن تُمرر للعالم إلا التوجس والريبة، خاصة أن التوقيت حساس جدا، وأن البنوك الدولية والاتحاد الأوروبي والمستثمرين الأجانب يبحثون عن مؤشرات طمأنة لا عما يُعمق المخاوف ويضعف الثقة في مستقبل البلاد التونسيّة.
أيضا الإعلان عن تقديم رئيس الجمهورية خطابا الأربعاء الماضي، قد شكل في حد ذاته عنوان وجود أزمة، فكان الانتظار والتخمينات. ولأن الجو العام كان مهيئا لسوء الفهم، فإن البعد الاتصالي كان ضعيفا، مما استدعى من مؤسسة الرئاسة توضيح نقاط فُهمت بشكل مختلف.
ولكن بعيدا عن النقاط التي تعرضت إلى سوء فهم، فإن حديث رئيس الجمهورية عن عزمه منح الجيش وظيفة حماية المنشآت الكبرى، قد مثل حركة استنفارية بامتياز تكشف عن وجود تهديدات جديّة استوجبت تدخل الجيش الذي لطالما عرفت تونس بحرصها على إبعاده وعدم الزج به فيما هو داخلي.
وفي الحقيقة يبدو أن الخطاب تعمد تمرير فكرة غامضة تتعلق بتدخل الجيش وحمايته للمنشآت من المحتجين، ولكن الربط كان من تحت السطور، وهو ما جعل البعض يشتمّ منه رائحة التضييق على الحريات، الشيء الذي جعل مؤسسة الرئاسة تقوم بتوضيحات وتؤكد أن الاحتجاجات السلمية يكفلها القانون، وأن الجيش مهمته حماية المنشآت من الأيادي العابثة بالممتلكات العمومية.
من ناحية ثانية، تحدث رئيس الدولة التونسية في خطابه عن قانون المصالحة الذي يلقى معارضة شديدة، وكان موقف الرئيس واضحا جدا لعدة أسباب: أولها أنه صاحب المبادرة التي تقول بالمصالحة الاقتصادية، وثانيها لأن الاستثمار هو شرط خروج تونس مما سماه الرئيس عنق الزجاجة. ذلك أن تمرير قانون المصالحة هو الذي سيشجع أصحاب رؤوس الأموال على الاستثمار، الذي يمثل عجلة أساسيّة من عجلات التنميّة.
اللافت أن نبرة الرئيس في الخطاب كانت حاسمة وفاصلة في أمور عدة، وذلك حسب تقديرنا لأن الأزمة تفاقمت ولم يعد الوقت يسمح بالإطالة والتجاذب في موضوعات من صميم مصلحة البلاد. فالدوافع الاقتصاديّة كانت مهيمنة على الرؤى السياسية المتضاربة، والظاهر أن الدولة عازمة على إيجاد الحلول الاقتصادية التي تراها مناسبة في معزل عن المواقف السياسيّة الرافضة.
وفي الحقيقة عرفت تونس في الأسابيع الأخيرة عودة لخطاب طرد المسؤولين والوزراء من مناطق تعاني الفقر والتهميش الاقتصادي، إضافة إلى انتقادات الأحزاب المعارضة للحكومة بالعجز عن إيجاد الحلول الاقتصادية الناجعة، ناهيك أن بعض الوزراء ارتكبوا أخطاء في تصريحاتهم أججت الشعب والنخب، على غرار تصريح وزيرة المالية الذي بث الرعب حول الوضعية المالية، ولم ينجح مدير البنك المركزي الذي سيمثل أمام البرلمان قريبا في تهدئة القلقين، خصوصا أمام تواصل انهيار الدينار التونسي أمام الدولار واليورو.
لا شك في أن الأوضاع في تونس حاليا صعبة، وتحتاج إلى الهدوء والتركيز والقرارات الجريئة أكثر مما تحتاج إلى تغيير حكومي لا شيء يضمن نجاعته، حيث تتالت حكومات كثيرة منذ الثورة إلى اليوم. ولكن من المهم أن تعترف مؤسسة الرئاسة وأيضا الحكومة بوجود أزمة اتصال خطيرة لا تساعد على التقريب في وجهات النظر وعلى إيصال الحلول بأقل تكلفة ممكنة من سوء الفهم، الذي ينتج آليا سوء تفاهم.