صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

«آستانة» الأخيرة وتسليم أوراق سوريا كلها للروس والإيرانيين!

أعطى الظهور الأميركي في اجتماع «آستانة» الأخير، انطباعاً بأنَّ قرار سوريا لا يزال في يد فلاديمير بوتين، وأنَّ ما جرى في هذا الاجتماع هو أن كل شيء لا يزال على ما هو عليه، وأن مصير الشرق الأوسط كله لا تزال تتحكم فيه روسيا الاتحادية، هذا إن لمْ يكن هناك تدارك سريع للأمور بعد زيارة لافروف الأخيرة إلى واشنطن.
كان هذا مفهوماً في زمن إدارة أوباما البائسة، ولكن الروس قد تمادوا كثيراً عندما فرضوا في هذا الاجتماع الأخير كل ما يريدونه.
المفترض حسب ما قاله الرئيس ترمب أنْ تخرج إيران من المعادلة السورية، ومن معادلة هذه المنطقة الشرق أوسطية نهائياً، لكن ها هي دولة الولي الفقيه قد تم تكرسيها مجدداً من قبل روسيا الاتحادية، في اجتماع «آستانة» في هذه المعادلة التي بقي الخصم فيها هو الحكم، وبقي «حاميها حراميها»، وبقي الضامنون حتى بالنسبة لهذه الاتفاقيات الجديدة هم الإيرانيون والروس، «وكأنك يا أبا زيد ما غزيت»!!.
حسب ما قيل وما تردد في الإعلام، وعلى ألسنة كبار المسؤولين الأميركيين، فإنَّ تنفيذ مذكرة المناطق الأربعة التي تم الاتفاق على أن تكون مناطق عدم تصعيد قليلة التوتر، سيكون بضمانة دول محايدة، لكن ما جرى في اجتماع «آستانة» الأخير أن كل شيء بقي على ما هو عليه، وأنَّ إيران قد تم تكريسها كدولة ضامنة، أي كدولة «محايدة»، وأنَّ روسيا بقيت تمسك بكل أوراق هذه الأزمة التي من المفترض أنها أصبحت أزمة دولية، كل هذا وقد أُعطي لتركيا دور ثانوي «ديكوري»، في حين أن المتوقع أن يفرضها الأميركيون دولة «ضامنة» رئيسية، من حقها أن تتدخل حتى عسكرياً لضبط الأمور في مناطق «تخفيض التوتر» الأربعة إنْ استلزمت مستجدات الأمور ذلك.
والسؤال هنا هو: كيف من الممكن يا ترى أن تلعب إيران دور الخصم والحكم في الوقت نفسه؟ والتي هي سبب المشكلات والإشكالات التي تشهدها سوريا ويشهدها الشرق الأوسط كله؟.
كان يجب إخراج إيران من هذه المعادلة نهائياً، والمفترض أن تكون الدول الضامنة لمناطق «التهدئة» الأربعة دولاً محايدة بالفعل، وذلك لأن الإيرانيين ولأن الروس أيضاً لا يمكن أن يكونوا محايدين، ولأنهم سيبقون يتلاعبون بعامل الوقت لإبعاد استحقاق: «المرحلة الانتقالية»، حسب «جنيف 1» وقرار مجلس الأمن رقم 2254، ولأنهم سيستغلون «ضمانهم» هذا الذي أقره اجتماع «آستانة» الأخير للإبقاء على بشار الأسد حتى نهاية رئاسته الحالية، بل وإنه غير مستبعد أن يضمنوا له ولاية جديدة وبانتخابات شكلية، ككل الانتخابات الرئاسية التي جرت في سوريا خلال نصف القرن الأخير كله.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه هو أن وزير خارجية نظام بشار الأسد لم يلمّح فقط في مؤتمره الصحافي يوم الاثنين الماضي، بل أعلن وبكل وضوح أن صيغة المناطق الأربعة الآنفة الذكر لن تكون تحت رقابة الأمم المتحدة، وإنما تحت الرقابة الروسية، وأنها ستكون البديل لـ«حل جنيف والمرحلة الانتقالية»، وهذا يعني، إنْ لم يكن هناك تدخل أميركي ودولي عاجل لتصحيح المسار ووضع الأمور في أنصبتها الصحيحة، أنَّ الروس والإيرانيين قد حققوا انتصاراً كاسحاً، وأنَّ الأمور قد عادت إلى ما كانت عليه لدى انفجار الأزمة السورية، وكأن كل هذا الدمار لم يكن، وكأن مئات الألوف من الأرواح البريئة لم تزهق، وكأن الملايين من السوريين لم يتحولوا إلى لاجئين ومشردين، سواء داخل وطنهم أو في كثير من دول العالم القريبة والبعيدة.
إنَّ المفترض أن يكون وضع الولايات المتحدة في اجتماع «آستانة» الأخير ليس بصيغة «مراقب»، فهذا كان في عهد الإدارة السابقة التي هي المسؤولة عن وصول الأزمة السورية إلى ما وصلت إليه، أمّا في عهد هذه الإدارة الجديدة فإن المفترض أن تكون الدول الضامنة لـ«المناطق الأربعة» دولاً محايدة بالفعل، وأن تُفْرض على الإيرانيين فرضاً مغادرة سوريا سياسياً وعسكرياً، ووفقاً لجدول زمني محدد قصير المدى، وبكفالة دولية فاعلة، وألا يتم تأجيل المباشرة بالمرحلة الانتقالية وفقاً لـ«جنيف1» وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، ولا للحظة واحدة.
ولعل الأخطر في هذا كله أنَّ هناك من يتحدث عن أنَّ ما تم الاتفاق عليه في «آستانة» الأخير سيكون بالنتيجة هو الحل النهائي، وأن فترة تطبيقه لن تقف عند مجرد الشهور الستة المتفق عليها، بل قد تمتد لسنوات طويلة، مما يعني أن عملية التلاعب والتسويف التي سيلجأ إليها الروس حتماً وبكل تأكيد ستسفر عن مستجدات كثيرة، وأن هذا النظام الاستبدادي المتهالك الذي على رأسه بشار الأسد، قد يستمر لسنوات طويلة، وتكون النتيجة أن كل هذه المذابح وكل هذه الدماء التي نزفت، ستكون نتيجتها كنتيجة مذابح حماة الشهيرة التي ارتكبها الأسد الأب وشقيقه رفعت، قائد سرايا الدفاع، في عام 1982.
ويبقى في النهاية أنه لا بد من الإشارة إلى أن الذين يراهنون على فراق روسي – إيراني قريب أو بعيد، يقعون في خطأ فادح، وأنهم لا يعرفون حقائق الأمور، فالمصالح الاستراتيجية المشتركة بين الدولتين تفرض عليهما تحالفاً طويل المدى وبلا نهاية قريبة، فالروس الذين ذاقوا مرارة العزلة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لا يمكن أنْ يفرطوا في هذا الحليف الذي لا حليف فعلياً لهم غيره، ذلك بينما الإيرانيون الذين كابدوا ويلات عزلة استدامت لنحو أربعة عقود لا يمكن أن يفكروا حتى مجرد تفكير بإنهاء زواجهم السياسي «الكاثوليكي» مع إمبراطورية فلاديمير بوتين، التي مكنتهم من أن يسيطروا على العراق وعلى سوريا، والتي تساندهم للسيطرة على بعض الدول العربية الأخرى.
إن ما يريده ويسعى إليه بوتين هو أن يكون هناك عالم جديد هو عالمه، كما قالت مارين لوبان، وهو إنهاء هيمنة الولايات المتحدة على هذا العالم الأحادي القطبية، ولذلك فإنه مضطر للحفاظ على هذا الحليف الإيراني، وكل هذا بينما تخلى الإيرانيون عن كل خلافاتهم التاريخية مع روسيا الاتحادية من أجل ضمان مساندة موسكو لكل تطلعاتهم التمددية في المنطقة العربية. ولذلك فإن على العرب أن يكفوا عن الاستمرار في محاولات دق الأسافين في العلاقات الروسية – الإيرانية؛ لأن هذا غير ممكن في المدى المنظور على الأقل، ولأن «القيصر الروسي» لا يرى أي جدوى من تعزيز علاقات بلاده مع الدول العربية على حساب علاقاتها مع «الإمبراطورية» الخمينية!