بين مُسلّمات تعامل البشر فيما بينهم، التوافق على أن إقرار المرء بخطأ، ثم امتلاك شجاعة الاعتذار عنه، يعجّل طي صفحة ذلك الخطأ ويفتح باب بداية جديدة، أساس بنيانها هو الصفح، والأمل من إطلاقها هو الاستفادة من الدرس، وألا يتكرر ما حصل من أخطاء الماضي. بين الأفراد، يحصل هكذا تعامل بكثير من التباسط، ربما يومياً، وبلا كثير شروط. إنما، على صعيد الشعوب تبدو الصورة أكثر إيلاماً، عندما يحل إنكار الخطأ محل الإقرار بحصوله، فإذا به يلد خطايا وآلاماً، يدفع ثمنها الأفظع أبرياءٌ ما استشارهم أحد بأي قرار حرب، أو صفقة سلم.
في هذا السياق، كدت ألا أصدق ما سمعت وشاهدت مساء السبت الماضي، عبر شاشة فضائية التلفزيون البريطاني الإخبارية، عندما أنكر ساسة صربيون وقوع مجزرة إبادة جماعية في سربرينتسا خلال حرب البوسنة والهرسك (يوليو/تموز 1995)، راح ضحيتها أكثر من ثمانية آلاف مسلم بوسني، وحُمّل مسؤوليتها كلٌ من رادوفان كاراديتش، الزعيم السياسي لصرب البوسنة، والجنرال راتكو ملاديتش، قائد الميليشيا الصربية، ثم إن الأمم المتحدة عدتها في سجلاتها أسوأ مجزرة إبادة جماعية شهدتها أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان لصدى وقوعها تأثيره المدوي عالمياً على مسار الحرب، خصوصاً بعد تعرض كوسوفو أيضاً لهجمات صربية شرسة سنة 1999، ما دفع حلف «الناتو» إلى أخذ زمام المبادرة وشن غارات على بلغراد أسهمت في إسقاط حكم سلوبودان ميلوسوفيتش سنة 2000، ليواجه بعدها محكمة العدل الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب، إلى أن فاجأه الأجل المحتوم (11-3-2006) داخل زنزانته في لاهاي.
الواقع أن خطأ إنكار خطيئة وقعت، سواءً عسكرياً أو سياسيا، ليس حِكراً على ساسة الصرب، المنكرين وقوع مجزرة سربرينتسا بإصرار أدهش الصحافية كيتي رازال، مراسلة «بي بي سي»، بل هو خطأ يتكرر في غير زمان ومكان، ثم من المؤسف أن يوّرثه جيل ما لأجيال تأتي بعده، وبدل انطلاق مسيرة وفاق وتصالح بين أطراف أمضت أزماناً في الاحتراب وسفك الدماء، تتعمق الشكوك، فتزداد مسافات التباعد، وإذ ذاك تجد الكراهية تربة تصلح جيداً لغرس بذور العنف المسلح، فيزداد دوران عجلة الحروب، يتواصل تدفق الدم، ويستمر قتل البشر بعضهم بعضاً، بغير وجه حق، كأنما حياة الإنسان لا قيمة لها ولا اعتبار.
على سبيل المثال، الاثنين المقبل سوف تحتفل دولة إسرائيل ببلوغها العام التاسع والستين. تُرى، هل بقيت لدى غلاة تطرف اليمين الإسرائيلي بقية عقل تدفعهم للتدبر فيما حل بالفلسطينيين من المآسي، منذ ما قبل خامس عشر مايو (أيار) 1948 ومن بعده؟ ليس ضرورياً هنا سرد وقائع المجازر وأسماء أماكنها أو الجنرالات من «أبطالها». تلك معلومات متاحة لكل من يبحث عنها. إنما، كما في إنكار بعض الصرب لوقوع مجزرة سربرينتسا، ما يزال بين الإسرائيليين من يستعصي عليه الإقرار بفداحة الثمن الفلسطيني لنشوء دولتهم على أرض الفلسطينيين، وعلى حساب حقوقهم كبشر. في ظل هكذا إنكار، لن يحصل تصالح حقيقي، ولن ينهض سلام جدّي.
وفي السياق ذاته، أعجب إذ يمر بي، أحياناً، قراءة أو مشاهدة أو استماعاً، موقفٌ ما يتخذ من إنكار وقوع مجازر أدولف هتلر ضد جموع اليهود في ألمانيا وبولندا، وغيرهما، مَعبراً للدفاع عن الحقوق الفلسطينية. ذلك التصرف إما أنه يعبّر عن جهل مدقع، أو أنه تخابث فاقع. والحالة الثانية هي الأرجح. فليس سوياً من يظن أن غسل أيدي النازية من جرائمها البشعة، يمكن أن يشكل إنصافاً للقضية الفلسطينية. بالعكس، لطالما أكد عقلاء الفلسطينيين والعرب والمسلمين، عموماً، أنهم بقدر ما يدينون ما جرى لليهود على أيدي النازيين، قدر ما يودون لو أن عقلاء الإسرائيليين حرصوا، وعملوا، على ألا يتحول الضحية إلى جلاد. في أول الأمر ومنتهاه، إنكار الخطأ لن يلغيه، وإصلاحه لا يكون بخطأ أبشع منه، بل بإقرار حصوله، ثم الاعتذار عنه، وبدء مشوار الإصلاح. لكن ذلك كله لن يتوفر بلا صفاء نيّات وجديّة السعي لتصالح يوصل للسلام العادل.
TT
إنكار الخطأ يضاعفه
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة