سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الإليزيه بين «أوديب» و«إلكترا»

المرشحان للوصول إلى الإليزيه: «واحدة قتلت أباها... والآخر تزوج أمه». هذا، ربما، من أطرف العناوين الصحافية خلال الأيام الأخيرة للمعركة الرئاسية الفرنسية، وأكثرها فجاجة. فالمرشحة مارين لوبان دمرت والدها سياسياً وأقصته من حزب «الجبهة الوطنية» الذي أسسه وارتبط اسمه به طوال تسعة وثلاثين عاماً، وورثته وهو لا يزال حياً. أما إيمانويل ماكرون فوقع، وهو في الخامسة عشرة، في غرام معلمته بريجيت ترونيو التي تكبره بربع قرن، ولها ثلاثة أولاد، أحدهم مولود قبله بسنتين، وبقي على علاقته بها إلى أن تزوجها وهو في الثلاثين.
أخبار الرئاسيات الفرنسية من الغرابة، هذه المرة، والإثارة، بحيث إنها جذبت العالم أجمع، ودفعت بباراك أوباما لأن يتدخل بشريط مسجل لدعم ماكرون، فيما يشجع الرئيس الأميركي الحالي ترمب علناً حاملة أفكاره الشعبوية مارين. وهذا في بروتوكولات الدول الكبرى نادر، ليس فقط لأن فرنسا لها موقعها المركزي في أوروبا، ومكانتها العريقة، بل لأن تقاليدها السياسية المعروفة بالرصانة واللباقة، تهشّمت وتكاد تذروها الريح، وهي تشهد خسارة حزبيها الرئيسيين للسباق، وخروجهما من المعركة بهزيمة منكرة، وحلول مرشحين، كل منهما حالة على حدة... أحدهما دون حزب كبير وكتلة نيابية، وآخر بنائبين فقط وشعبية مستجدة.
المناظرة التلفزيونية بين المرشحين ماكرون ولوبان، كسرت ما تبقى من صورة الرئاسيات الفرنسية المهيبة. لقاء لا يشبه السبعة التي سبقته لا في الألفاظ ولا المضامين. هاجمت لوبان خصمها ببذاءة غير معهودة، كالت له التهم بالجملة: «خاضع»، «فاشل»، «راكع أمام ميركل»، «يأتمر من الاتحاد الأوروبي»، «مداهن للإسلاميين»، مرشح «العولمة» و«البنوك» و«الوحشية الاجتماعية»، وأضافت إليها أن له حساباً سرياً خارج البلاد. معلومات غير دقيقة، برنامج عماده البغض للآخر، والتخويف والتضليل. حتى الصورة الرسمية التي نشرتها وتكشف عن جزء من ساقها، قيل إنها اختيرت قصداً، على هذا النحو، كرسالة للإسلاميين. لم تكن رسائل فرنسا على هذا المستوى من الانحدار والإسفاف. وما كان لمرشح مكان ماكرون أن يقول للمرأة الجالسة أمامه إنها «كاذبة» وتتفوه بـ«كلام سخيف» وتقصّ «أوهاماً» طوال أكثر من ساعتين، ويبدو الأمر عادياً.
ناضل فرنسوا ميتران منذ الحرب العالمية الثانية، ودخل المعتقلات، وانتظر أربعين عاماً، وهو يتدرج في المسؤوليات والمناصب قبل أن ينتخب رئيساً. ولم يكن خلفه جاك شيراك أقل صبراً ورزانة، ولا أسرع خطى. وقضى نيكولا ساركوزي عمراً يناضل بين رئاسة بلدية نويي سور سين (الضاحية الباريسية البرجوازية) والبرلمان، وحزبه السياسي، ويصارع الأمواج العاتية قبل أن يبلغ رأس الهرم.
لم يكن ماكرون معروفاً قبل ثلاث سنوات فقط، واستطاع أن يقفز من عمله المصرفي إلى نيابة الأمانة العامة في رئاسة الجمهورية، ومن ثم يصبح وزيراً للاقتصاد في حكومة مانويل فالس الثانية، ويتركها ليؤسس حزبه «إلى الأمام»، ويجمع له تمويلاً سخياً، ويترشح للرئاسة، بسرعة صاروخ لا يصدّ. لم يبق الرجل في مكان واحد أكثر من ثلاث سنوات. حتى «الحزب الاشتراكي»، الذي لا بد أنه أدرك خطورة تصدعاته لم يغره بالاستمرار فيه.
ثمة من يدعم ماكرون ويدفع به، وإلا لما استشرست بعض وسائل إعلام لتصنع منه أسطورة، وتمنّعت مواقع إنترنتية كبيرة عن توجيه أدنى انتقاد له، وكرّست كبرى الأسماء الصحافية لتلميع صورته. لكن عازف البيانو وعاشق الأدب والمسرح، محظوظ أيضاً.
كان يمكن لأحلام ماكرون أن تبقى مؤجلة، لو أن فرنسوا هولاند، صاحب الفضل الكبير عليه، أفضل شعبية بقليل، ولم يرتكب كل الحماقات التي جعلته الرئيس الفرنسي الأسوأ سمعة. كان يمكن حينها لهولاند أن يترشح لدورة ثانية مثل سابقيه، ويحجم تلميذه.
كما أن ماكرون بدا بين الأقل حظاً حين بدأ السباق الرئاسي. تقدم فرنسوا فيون صاعداً ببرنامجه اليميني الإصلاحي الذي وحده يمكنه أن يقارع مارين لوبان، وسط إحساس بأن كل الآخرين مجرد امتداد لفشل سابق، وماكرون أحدهم. وُصِف بالانتهازية، وبأنه توأم هولاند، ولن يكون إلا تكراراً لسقطاته. لكن فيون هو الذي سقط، بسبب فضائحه والدعاوى التي لاحقته، وصمد من لم يكن في الحسبان.
وخلال المناظرة التلفزيونية تأكد أن ماكرون كان محظوظاً أيضاً حين فازت في مواجهته لوبان، وليس أي أحد غيرها. ففي مقابل عنصريتها ورداءة برنامجها لم يكن بحاجة لجهد يُذكر، كي يقنع بأنه الأوحد أو الخراب. ومع أن المتفرجين نادراً ما يصغون لما يقال في هذه اللقاءات، فإن لوبان بالغت في الهجوم، فكسب ماكرون نقطتين ونصف النقطة في الاستطلاعات، وانخفضت التوقعات بشأنها.
رجل الاستثناءات أو المصادفات أو المصالح المالية كما تصفه خصمه اللدود... تبقى غرائبيات الرئاسيات الفرنسية موضع رصد. الغموض يلف شخصية ماكرون وحتى مدى صلاحية برنامجه، في حال فاز، كما هو منتظر، لإخراج فرنسا من أزمتها، وقدرته على كسب أغلبية برلمانية تسمح له بتنفيذ مشاريعه. هناك من يراه «المخلّص»، ومن يعتبر أنه «نابليون» آخر أو «ديغول» جديد. وغيرهم يذهبون لانتخابه هرباً من شرّ لوبان، أو يتغيبون كي لا يتحملوا وزر إيصاله، خوفاً من مكره. مفاجآت فرنسا الانتخابية والانقلابية لن تنتهي بفوز أحد المرشحين، فكل منهما «ظاهرة» سيكون لها ما بعدها. جمهورية جديدة تولد وجيل آخر يصل إلى السلطة. وعلى فرنسا أن تختار بين عقدتين نفسيتين؛ إما «أوديب» أو «إلكترا».