فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

أوبرا في الرياض... المجتمع على خطى العالم

تدخل الموسيقى بأصنافها على عواصم الخليج ودور الأوبرا. مجتمعاتها الذوّيقة لعيون المعزوفات، والطربة للأهازيج والمواويل، لديها الرغبة في أن يتعاضد ارتفاع مستوى الرفاه مع مستوى الترفيه. خلال السنوات الماضية كنت أحضر بين وقت وآخر بعض أمسيات مهرجان أبوظبي للموسيقى الكلاسيكية، وحدث أن وفقنا بحفلة للموسيقار دانيال بيرنباوم؛ عازف عالمي ذائع الصيت يندر وجود من ينافسه من الأحياء، ومثقف، وصاحب رأي سياسي، وتربطه صداقة متينة بإدوارد سعيد، ويوصف بـ«محب الفلسطينيين». لم أحضر بمستوى ذلك العزف من بعد على الإطلاق.
من الرائع عيش مرحلة الموسيقى في عواصم الخليج... الموسيقى الكلاسيكية الحيّة المعبرة عن رقي الذوق، والصادرة عن عباقرة لم يكونوا مجرد عازفين، بل ارتبطوا بتاريخ مع الفلسفة والأدب والشعر.
مؤخراً عزفت لأول مرة «أوبرا» في السعودية، في «مركز الملك فهد الثقافي»، من قبل أوركسترا يابانية، تنوّعت بمختاراتها، وقد عُزفت بعض أعمال تشايكوفيسكي، وهذا فوق عبقريته الموسيقية، لديه اهتمامات فلسفية؛ فهو صاحب نقد لمبادئ آرثر شوبنهاور، وله تعليقات على آراء تولستوي الفلسفية، وفلاديمير سولوفيوف، وتشيتشيرين، وفي آخر حياته درس اسبينوزا. الموسيقى الصادرة من أولئك العباقرة بكل ثيماتها الموسيقية، أو الرمزية الأوبرالية تكرع من ينابيع التاريخ والصراع المجتمعي والأمواج الفلسفية المتلاطمة، وهي نتاج تصدّع بين تناقضات العالم. بمعنى آخر، فإن الموسيقى بحضورها تساهم في رفع مستوى الرؤية والذوق، وتسهل للإنسان أن يخرج من السياجات التي رضي بها، أو فرضت عليه.
في الرابع من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي التقى وزير الثقافة والإعلام السعودي الدكتور عادل الطريفي بجمع من المسؤولين اليابانيين، واستفاض بالحديث عن تمكين الموسيقى والثقافة في السعودية؛ الوزير معروف لدى المثقفين باهتمامه بالموسيقى الكلاسيكية، بالأوبرا العالمية، ولديه آراؤه المستقلة حول السيمفونيات والمقطوعات، ويستظهر القطع الموسيقية من قلب الأفلام السينمائية الخالدة، وقد تحدّث آنذاك عن رغبته في تمكين الثقافة والفنون في المملكة العربية السعودية، يتحدّث قائلاً: «أنا من محبي الموسيقى الكلاسيكية، وأوبرا (برامز) هي ربما أفضل مُؤَلَّفة موسيقية على الإطلاق، وأنا أستمع إليها جميعاً، لكن كونشرتو البيانو رقم (2) هو العمل الموسيقي المفضل بالنسبة إليّ، خاصة حين أعاد تقديمه المؤلف الموسيقي النمساوي كارايان في ستينات القرن الماضي، وأعتقد أنه يحظى بشهرة واسعة في اليابان، وأود أن أشاهد يوماً ما شاباً سعودياً يمكنه العزف على آلة (التشيلو) على الصعيد العالمي، كما الفنان الشهير يويو ما، وأود أن أرى فتاة شابة مثل جاكلين دو بري، وهي فنانة رائعة هي الأخرى في العزف على آلة (التشيلو)... فأنا أتصور أن هناك طاقة كبرى لدى الشباب السعودي، ونحن بحاجة إلى أن نُمَكِّنَهم من متابعة دوافعهم، وأهدافهم وطموحاتهم في مجال الفنون والثقافة، وهذا أمر غاية في الأهمية بالنسبة إليّ».
بعد ذلك الحديث، تحققت أمنية المجتمع من خلال وعد الوزير، وآية ذلك تلك الأعداد الغفيرة المتقاطرة على القاعة بغية الظفر بتذكرة الحضور. نفدت التذاكر ولم تنجح محاولات الفوز بمقعد في اللحظة الأخيرة، والفيديوهات التي تم تداولها على مواقع «التفاعل» بيّنت الانسجام المطلق، والفرح الغامر، والانهماك التام مع تلك النوتات الآسرة والساحرة. ورغم حداثة حالة الحفلات الأوبرالية أو الموسيقية الكلاسيكية، فإن المجتمع السعودي لديه علاقته المستمرة مع الموسيقى عبر الراديو، والتلفزيون، ومن ثم الأقراص المدمجة، والإنترنت، لكن علاقته تجددت بأن يحضر حفلة متكاملة بنفسه بدلاً من سماعها عبر وسائل وسيطة أياً كانت.
الأوبرا بمعناها العميق منذ نواتها الإغريقية، وتأثرها بالأدعية الهندية، والمجالس الفارسية، هي حالة حوار مستمر بين الإنسان وما حوله من الأشياء، أساسها الاستفسار، الرغبة في سماع صوت آخر يجيب، هي تفجّر بين السؤال والجواب، بين الروح والجسد، بين الحقيقة والاحتمال، بين النور والظلمة، بين الليل والنهار، بين الماء والنار، هي رصد إنساني فني لحال التناقضات، وبها استجابة لبذرة الدهشة في الإنسان، وأصالة السؤال، وحيوية الاكتشاف. إنها تهذّب المجتمعات وترفع من مستوى سكونها، وانفتاحها على الأصوات الأخرى، الأوبرا بمسرحتها واكتمالها صيغة إحراج للجمود، تجمع بين الموسيقى والفكرة، وحوار المجتمع، والحب والكره، وصراع الخير والشر، كما في سحر أوبرا «كارمن» الأعظم لجورج بيزيه (1875) الخالدة بفاتحتها وخاتمتها الدرامية من السكون إلى الشقاء؛ من التعلق بالفتاة الفاتنة، وحتى طعنها والذهاب إلى حكمٍ بالإعدام.. أوبرا فاتنة، تعبر عن كل التناقض والوميض واللحاظ التي يغشاها الإنسان يومياً في حياته من دون إدراك.
قبل قرنين من الزمان كتب الشاعر البريطاني اللورد بايرون: «هناك موسيقى في تنهّد القصبة. هناك موسيقى في فورة الساقية. هناك موسيقى في كل شيء، لو أمكن البشر سماعها، فأرضهم ليست سوى صدى الأجواء».