حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

المصطلحات المسمومة!

لا أعلم عدد المرات التي كتبت فيها عن الإرهاب والتشدد والتطرف، ولا أعلم عدد المرات التي قرأت فيها لغيري كتباً ومقالات عن نفس الموضوع، ناهيك عن العشرات من الندوات واللقاءات الإذاعية والتلفزيونية التي تناولت نفس المسألة وبطرق مختلفة.
ها هو الإرهاب يطل مجدداً، فيقوم تنظيم القاعدة بقتل العزل في اليمن، والحوثيون يقومون بقتل مريدي أحد المساجد في اليمن، وحزب الله يقتل الأطفال والنساء في إدلب، و«داعش» يقتل الجنود المصريين في سيناء والأقباط في كنائسهم والمواطنين في ليبيا. الدماء تسيل والقتلى يسقطون بالعشرات عاماً تلو عام، نفس المشاهد تتكرر، نفس الأعلام ترفع، نفس الشعارات تعلق.. ما يتغير فقط هو اسم الفريق وشعاره وألوانه، ولكنها نفس العاهات الفكرية ونفس الأصول المدمرة التي لا تزال تواصل إفراز الإرهاب ونوعياته المختلفة.
تم حصر المسألة اليوم بأسماء المجرمين مثل «حزب الله» و«داعش» و«القاعدة» و«الحوثيون»، متناسين أن المسألة أعمق وأهم وأكبر. أمة الدين الإسلامي وعد نبيها محمد عليه الصلاة والسلام بأن يرسل الله على رأس كل مائة عام من يجدد دينها، فلماذا إذن يوجد من يعتم ويكمم أفواه كل من ينادي بالتجديد ويطلق عليه صفة زنديق ومبتدع وفاسق وضال وكافر؟ العجيب والغريب والمريب أن قائمة التوصيف والتصنيف بـ«الكفر» دوماً ما تكون جاهزة بحق محمد شحرور ونصر حامد أبو زيد وعلي عبد الرازق وطه حسين وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد سعيد العشماوي ومحمد أركون وغيرهم، ولكن تبقى اليد مرتعشة ومهزوزة ومترددة في إطلاق نفس الحكم على المجاميع الإرهابية التي تم ذكرها وسرد بعض جرائمها.. هذه هي في رأيي قمة النفاق وهاوية أوحال الازدواجية والكيل بمكيالين، وهي تماماً تجعل خطاب التصدي للتطرف والتشدد والإرهاب مسألة محل تشكيك، وعلى أقل تقدير غير جدية وكاملة المجهود.
«المصطلحات الدخيلة» اقتحمت الخطاب الديني وأصبحت جزءاً منه وأداة فعالة لتمزيق المجتمعات وخلق الفتن فيها وتأصيلا حقيقيا لقوى التطرف، ولعل أغرب هذه المصطلحات مصطلح العقيدة، وهي كلمة لم ترد في القرآن ولا في السنة النبوية الشريفة، على صاحبها أزكى صلاة وأطهر سلام، ولا على لسان الخلفاء الراشدين ولا على لسان الصحابة ولا على لسان أئمة المذاهب الأربعة، ومع ذلك تحولت هذه الكلمة إلى «أساس» من أساسيات الدين، ليتم اعتمادها كجهاز «إم آر آي» للاطلاع به على قلوب العباد وتقدير علاقتهم بالله. ومنهم من تجرأ واعتبر أن عقيدة كل من الإمام أبي حنيفة النعمان والإمام النووي والإمام أبي حامد الغزالي جميعهم «عقائدهم بها خلل».
عندما اعتمدنا مصطلح العقيدة وأنها أهم من كلمة الإيمان التي وردت في القرآن حصل التصنيف البشري العبثي وتحولت الجماهير إلى فرق ومذاهب وطوائف، وباتت اهتمامات البعض تكفير وزندقة وتبديع كل من يخالفهم، ومع هذا المفهوم تطورت الأفكار لتأسيس «عقيدة» الولاء والبراء بمفهوم يناسب فكرة التقسيم العقائدي نفسه، الذي يعيش وينمو ويتطور على فكرة «نحن وهم» والعالم الذي يعيش في دار حرب ودار سلم والفسطاطين... إلى آخر عبارات التقسيم التي باتت أساس إزكاء الفكر المتطرف. كل ذلك يقدس ويمجد ويحفظ على أساس أنه «تراث الأمة» دون النظر إلى الضرر الناتج منه وعنه.
كم من الأرواح يجب أن تزهق مجدداً حتى يكتب لنا لحظة يقظة حقيقية ويتم فيها التجديد الصادق بالخلاص التام من السموم التي تختبئ في التراث البشري للفكر الديني؟ هذا هو السؤال الجاد.