فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

المسلمون بأوروبا... أسئلة الهوية وإخفاقات الخطاب

تورد وسائل الإعلام الأوروبية بكافة نسخها بعض التجمعات لمسلمين مقيمين بها، يريدون تقييم التجربة الأوروبية، وربما يطمحون إلى تغيير نظامها، وإقامة النموذج الحاكم المنشود، مثال الحاكمية الإخوانية، أو الدولة القاعدية الزاحفة بعواصمها المؤقتة، أو الخلافة الإسلامية الداعشية. ويحدث أن يأتي صوتٌ إخواني مهجّن مثل طرح الدكتور طارق رمضان، الذي يعتبر الإسلام والمسلمين جزءاً من النسيج الأوروبي، وراح يناقش منذ زمن حول الهويّة، ودخل بحواراتٍ مطوّلة مع إدغار موران أشرت إليها أكثر من مرة في هذه الجريدة.
غير أن مشكلة الهويّة ليست بالاعتراف بوجود الآخر، بل احترام الغيرية الحضارية، وعدم التدخل بنسيج المجتمع موضع اللجوء، كما يحدث من بعض اللاجئين في ألمانيا؛ يريد بعضهم تعديل نظام الأمة نفسها، وهو الزائر، وهذا نابع من مركزية ضاغطة، واعتداد واهم بأن الآخرين بحاجة إلى ثقافتنا وتجربتنا وعقولنا، وإلى «تجربتنا الروحية»، التي لا حضور لها في التداول الديني الإسلامي، بل تغلب على المنابر أساليب غير مهذبة، وخطب القتل والتكفير والتدمير هي الأكثر حضوراً، وأي تجربة روحيّة تلك التي لم تهذّب ألسنة أولئك؟!
تلك النظرة الدونية للآخر الذي يلجأون إليه تعزز من حضور اليمين المتطرف ومن أحقيته بالفوز بفرنسا وألمانيا، ذلك أن فشل جميع تجارب تجديد الخطاب الإسلامي ودفعه نحو التحضر حرض اليمين على عزم خوض الحرب الشاملة ضد ذلك الخطاب وأذرعه وفروعه وتحطيم منابره. لقد جعل من المسلمين موضع إشكالٍ اجتماعي، هذا مع الفرص الكثيرة التي منحت طوال العقدين الماضيين لتحسين حضور الخطاب في المجتمع الأوروبي. في ظلّ كل الموجة اليمينية الضاغطة يأتي صوت وسطي ربما يشكل لبنة لبناء علاقة أكثر اعتدالاً بين المسلمين والأوروبيين، وبخاصة أفواج اللجوء الجديدة من مناطق الصراع في ليبيا وسوريا وغيرهما، إذ ذكر فولكر كاودر (السياسي البارز في حزب المستشارة الألمانية ميركل) أن «المسلمين جزء من ألمانيا وليس الإسلام جزءاً من ألمانيا»، وذلك خلال مقابلة مع DW، ويضيف: «إن حرية الاعتقاد هي أمر وجودي للحرية بحد ذاتها، ولا توجد حرية معتقد عندما تنعدم الحرية. إن حرية الاعتقاد هي أمر وجودي من أجل الحرية ذاتها، يصح مبدئياً لكل دين - وطبعاً في حدود القوانين والقانون الألماني الأساس. الإسلام دين يحصل على الحرية في بلدنا، لذلك يُسمح للمسلمين ببناء مساجدهم، ولكن لا يمكن بالطبع السماح في المساجد بتقديم أي شيء ضد ديمقراطيتنا وضد نظامنا الاجتماعي وضد».
يركز الطرح الأوروبي على ضرورة احترام القادم إلى دولهم للقيم والقوانين وتعلم اللغة، ذلك أن من عوائق التطوّر لبناء مجتمع مسلم منسجم مع الآخر عدم الدخول والاندماج والانصهار ضمن المجتمعات الأخرى، هذا مع احترام القوانين لهم وفسح المجال للشعائر، وإقامة المساجد، والأكل الحلال، وحرية التعبير.
طوال السنة الماضية قامت مؤسسات دينية حكومية بوضع ملاحق دينية بأنحاء العالم لغرض نشر الإسلام، ورفع مستوى الوعي، والقيام بأعمال الدعوة إلى الله، إلا أن الأحداث المتسارعة، ونمو التطرف، جعلا من طبيعة عملها موضع مساءلة، إذ تبيّن أن الأعمال التي تقوم بها روتينية، لم تعِ المشكلة الأساسية، ولم تدرك الخلل الثاوي في الخطاب، بل راحت تكرر الطروحات الجامدة، محاربة الرأي المخالف، ولم تفصل بين الخطاب الديني داخل المجتمع المسلم، وبين الطرح المنبري في المجتمعات الغربية بشكلٍ عام، مما عزز من تكوين صورة مسيئة عن الطرح الديني باعتباره - بالنسبة لهم - صانع أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وسليمان أبو غيث وأبو حفص الموريتاني وأبو بكر البغدادي، وهذه القناعة لم ينجح جميع الدعاة المسلمين في تبديدها عن أذهان المتلقي الغربي، وتلك هي معضلة تجديد الخطاب الديني، مما جعل البعض يعتبره مستحيل التجديد بالشكل اللغوي المطروح، وإنما بالمنهاج العلمي التفكيكي والانثربولوجي والخروج التام من «السياجات الدوغمائية المغلقة» كما هو تعبير البروفسور محمد أركون، الذي أرّقه موضوع اللاجئين والهويّة والمسلمين منذ أيام الإرهاب بالجزائر الذي سبب نزوحاً إلى فرنسا، كما يروي في كتبه، وعلى الأخص في كتابيْه «من مانهاتن إلى بغداد» و«الإسلام، أوروبا، الغرب».
المرحلة تبيّن مستوى الصراع بين رؤيتين؛ الأولى (المسلمون جزء من أوروبا ليس الإسلام) والأخرى (الإسلام والمسلمون جزء من أوروبا)، صراع محتدم، ومعركة كسر عظم ستبدو نتائج الحسم بها في الانتخابات المقبلة بأوروبا، ولكن الأكيد أن الوضع الحالي بالنسبة للمسلمين لن يكون كما هو عليه سنين بحبوحة الترحاب منذ الهجرات الأولى وحتى النصف الأخير من القرن العشرين.