رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

في نقد أُطروحة لبنان الأسير والضحية!

منذ مساء يوم الاثنين 27/ 3/ 2017 لا شغل للأوساط السياسية والإعلامية اللبنانية إلاّ معارضة أو تأييد مذكرة «الرؤساء الخمسة» إلى مؤتمر القمة العربية. والرؤساء الخمسة هم: الرئيس ميشال سليمان، والرئيس أمين الجميل، ورؤساء الحكومة السابقون فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام. ولا نملك نصَّ المذكِّرة لأن الموقعين عليها أبقوها سرية بعد إرسالها إلى القمة، وإبلاغ الرؤساء الثلاثة (عون وبري والحريري) بها. إنما المفهوم مما سرَّبته أوساط الرئيس عون و«إعلام المقاومة»، أنّ المذكّرة تطلب تضمُّناً عربياً للبنان لتطبيق القرارات الدولية وبخاصة القرار 1701، وتحرير ما تبقى من الأرض اللبنانية تحت الاحتلال، وتقول بالنأي بالنفس عن الأزمة السورية بحسب إجماع عام 2011 وإعلان بعبدا، كما تلتزم بعودة الدولة وبسط سيادتها وسلطتها على كامل الأرض اللبنانية، بعيداً عن السلاح غير الشرعي، وعن التدخلات الخارجية وسياسات المحاور. والرؤساء السابقون للجمهورية والحكومة يتوجهون للقمة استناداً إلى الانتماء العربي للبنان وإلى التزام الحكومات اللبنانية المتعاقبة بقرارات الشرعية الدولية، والإجماعات العربية، وهو ما يقتضيه الطائف والدستور والعيش المشترك. وبالنظر لهذه المبادئ والاعتبارات فإنهم يطلبون تضامُناً مع لبنان من القمة لمواجهة الاحتلال وتحديات اللجوء السوري والتدخلات الخارجية، والسلاح غير الشرعي.
لقد قوبلت مذكّرة الرؤساء بعاصفةٍ من النقد والتهجم من جانب أوساط رئيس الجمهورية، والرئيس بري وأنصار حزب الله. وهذا أمرٌ مفهومٌ من جانب الحزب، لأن المذكرة تذكر عدة أمورٍ تُعتبر من «المحرمات» عند الحزب. بيد أن الانزعاج الأكبر جاء من جانب رئيس الجمهورية الذي شعر أنه فقد ثقة هؤلاء المسؤولين السابقين بعد وصوله للسلطة بشهور قليلة. وصحيح أنهم لا يملكون سلطةً ولا تأثيراً على الإدارة الحالية، لكنّ مواقعهم قوية ومعتَبَرة عربياً ودولياً وبالداخل اللبناني أيضاً.
هل هناك دواعٍ لإعلان التشكك هذا؟ ولماذا الآن؟
لقد جاءت المذكّرة الآن لأن منبر القمة هو أعلى المنابر العربية، وهو ملحوظٌ ومسموعٌ عربياً ودولياً. أما التشكك أو نقص الثقة فله دواعيه أيضاً، ومن عند الرئيس كما من عند صهره وزير الخارجية جبران باسيل. فقد صرح رئيس الجمهورية أكثر من مرة بأنّ الجيش لا يكفي لحماية لبنان، وأنه لا يزال محتاجاً لسلاح الحزب، وقال إنه لا وظيفة لسلاح الحزب بالداخل اللبناني، كما أنه في سوريا إنما يدافع عن الشرعية (بشار الأسد) ضد الإرهاب (!). وبعد هجمات حسن نصر الله الخطابية الصاعقة على الجميع، صدر إعلان رئاسة مجلس الأمن الذي يطالب لبنان بإنفاذ القرار رقم 1701 (وهذه أول مرة منذ صدور القرار عام 2006)، الذي يمنع وجود قوات جنوب الليطاني غير الجيش والقوات الدولية، وخفض مجلس الأمن النفقات واللوجيستيات على القوات الدولية بنسبة 20 في المائة.
وما غيّرت هذه التطورات من خطاب الرئيس. بل إنه استغرب أن يتحفظ البعض على مشروع قرار التضامن مع لبنان الذي سيقدَّم لمؤتمر القمة العربي، وقال في مجلس الوزراء إنّ لبنان لم يحتل السعودية! هذه ردة فعل الرئيس. أما الوزراء الذين تحفظوا إنما فعلوا ذلك حرصاً على لبنان الذي يتجاوز الرئيس مصالحه، ويريدهم أن يتضامنوا مع «المقاومة» ضد القرارات الدولية، كما أن حزب الله لا يقوم بأعمال أمنيةٍ في لبنان فقط، بل وفي سوريا والعراق واليمن والبحرين، ويجاهر بالعداء للمملكة ودولة الإمارات.
وعلى طريقة «يرضى القتيل وليس يرضى القاتل»! تابع وزير الخارجية جبران باسيل «خطاب» الرئيس المقاوم. ففي زيارته لنيويورك، زعم الوزير المثقف والمؤرخ أنّ لبنان يجد موقعه الطبيعي في التحالف مع الولايات المتحدة، لأن اللبنانيين قاتلوا «داعشاً» منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولا يزالون يقاتلونه حتى اليوم! وقد اعتبر الصحافيون اللبنانيون والمثقفون تصريحات الوزير ناجمةً عن جهل، فراحوا يحاججونه بأنّ لبنان ما كان موجوداً في الحرب الأولى كدولة، أما «داعش» فما ظهر حتى عام 2013 - 2014! والواقع أن تصريحاته تلك لا تشكو من الجهل بالتاريخ، بقدر ما تشكو من الكراهية للإسلام، التي يريد التعبير عنها بهذه الطريقة، راجياً أن يركب بذلك موجات الإسلاموفوبيا العاصفة. وقد تابع حملاته هذه بعد عودته إلى لبنان وزيارته لقرى شرق صيدا، التي هجَّر المسيحيين منها الدكتور جعجع خلال الحروب الداخلية والإسرائيلية، فأراد إعادة من لم يعد منهم بالقوة، وبشَّرهم بأن القوانين الانتخابية لن تكون إلاّ على ذوقهم. وعندما قال له بعض الصحافيين إنّ تصريحاته وتصرفاته هي التي تحول دون التضامن العربي مع لبنان، كشف للبنانيين عن نجاحٍ هائلٍ آخر يتجاوز الحرب الأزلية والأبدية على الإسلام، وهو أنه اجتمع إلى وزير الخارجية السعودي والبحريني والأردني، وأقنعهم بقبول الصيغة التي اقترحها هو لقرار التضامن ( .(!
إنّ تقديري أنّ هذا الإسفاف والاستهتار كلَّه، الذي بدت آثاره الأولى في هجمة مجلس الأمن على لبنان، وتهدُّد علاقات لبنان بالعرب، هو الذي دفع الرؤساء الخمسة إلى تجاوز رئيس الجمهورية القائم في خطوةٍ غير مسبوقة، للطلب من القمة التضامن مع لبنان الذي يقوم وجوده واستمراره على عيشه المشترك وسلامه الوطني ودستوره وحياته الديمقراطية، والشرعيتين العربية والدولية.
هناك منطقان مختلفان ظاهراً لكنهما متلاقيان في النتائج والنهايات. يتفق المنطقان على أنّ لبنان أسير وضحية لإيران وحزب الله، بعد أن كان أسيراً وضحيةً للنظام السوري. المنطق الأول يستنتج من هذه المقدمة أنّ لبنان الضعيف إنما يحتاج إلى جهةٍ قويةٍ يستند إليها، وهي إيران والحزب وسلاحه، وتحالف الأقليات بالمنطقة. والمنطق الثاني يعتبر لبنان أسيراً، والرئيس الحالي مثل الرئيس الأسبق إميل لحود، قبله يعاني من الأسر نفسه ومن العقدة نفسها، ولذلك لا بد من الاستنصار بالعرب وبالأمم المتحدة، وبسائر المعجبين بالتجربة اللبنانية، لتخليص البلاد من الأسر، ومن كوابيس الضحية.
إنّ رسالة الرؤساء الخمسة تُشعِرُ برفض المنطقين. وذلك ليس لأن لبنان لا يعاني من الإرغامات، ولا يعاني من الاستنزافات. بل لأن لبنان لا يزال يملك عناصر قوةٍ وتماسُك يمكن أن يستخدمها لفك القيود، ولبسط السيادة، وللخروج من منطق السلاح والنزاعات الداخلية والاستقطابات الإقليمية. ومن عناصر القوة والتماسك والحرية وجود رؤساء «سابقين» أحياءً وأحراراً، وليسوا في السجون أو القبور (!). فحتى أنصار «الخضوع» للحزب وميليشياته حجتهم الرئيسية العجز أو عدم القدرة، أو أنّ الأمر يتجاوز لبنان. ورسالة الرؤساء تقول: بل إنّ الأمر يعنينا لأن الوطن وطننا والبلد بلدنا. وكما أن الحقّ يتطلب إحقاقاً فهو يتطلب استحقاقاً، وقد استحققناه بـ«الشهداء» في مواجهة إسرائيل، وفي مواجهة الميليشيات الطائفية الإيرانية. ولذلك فنحن نتوجه إلى العرب من مواقع الأخوة ومواقع الندية ومواقع الاستحقاق... نحن متمسكون بثوابتنا، ونناضل من أجل عيشنا المشترك ودولتنا، ونريدكم أن تكونوا معنا باسم الانتماء المشترك، ونظام المصلحة العربية المشترك. ويا للعرب!