سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

إردوغان ونظرية الإنجاب

المنازلات بين تركيا والاتحاد الأوروبي بدأت، وقد لا تنتهي قريباً. الرئيس التركي إردوغان يبدو رجلاً مندفعاً، لكن هجومه اللفظي المتصاعد على قادة أوروبيين، هذه المرة، لا يستند إلى فراغ. إردوغان يدرك حساسية المسألة الديموغرافية بالنسبة للقارة العجوز، هو الذي بيده إغراقها بالمهاجرين ساعة يشاء.
تضررت تركيا من أفواج النازحين إليها، لكن حان الوقت لتستثمرهم بمهارة. يكاد عددهم يقترب من الثلاثة ملايين، وجلّهم يحلم باجتياز البحر والوصول إلى الفردوس المفقود على الضفة المقابلة. تركيا صارت الجسر الأسهل للعبور، والأخطر على أوروبا وأهلها المتوجسين. الاتفاق الذي عقد منذ سنة، حدّ من نسبة المهاجرين بنجاعة، وتبيّن أن تركيا بمقدورها - إن هي أرادت - الالتزام بتعهداتها. هكذا باتت أنقرة تمتلك الورقة الأقوى في وجه من يخشون رؤية تسونامي بشري يهاجمهم من جديد.
لن يجازف إردوغان بكسر الاتفاق مع أوروبا الذي يبيض له ذهباً، كما يهدد هو ووزراؤه كلما تملكهم الغضب. فهو يريد أن يبقيه سيفاً مسلطاً، ووسيلة للضغط. يعنيه أيضاً أن يستمر دخول الأتراك إلى أوروبا ميسراً، كما أنه بحاجة ماسة إلى الستة مليارات يورو التي يسددها الاتحاد بطيب خاطر، في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي من ضائقة مرشحة للتصاعد. هذا عدا عن الأمل في الدفع إلى الأمام، بملف عضوية تركيا في أوروبا الذي ينتظر منذ عام 1987.
وإذا كان إردوغان يعي جيداً أن الأمل يوازي الصفر في فتح أبواب الاتحاد الأوروبي لبلد سيصبح تعداده 100 مليون مسلم عام 2050، أي أكثر من الألمان، فإنه يراهن على مكاسب كثيرة أخرى، منها الحد من الانتقادات وكبح أي إجراءات ضد بلاده، باسم حقوق الإنسان والديمقراطية، وحرية الصحافة، في وقت يعتقد فيه أن أولويته في مكان آخر.
لتحقيق مبتغاه، يتبع إردوغان مع الأوروبيين سياسة العصا والجزرة، يتوعد ولا ينفذ، يعلي الصوت ولا يخطو إلى الفعل.
يصف ألمانيا بـ«ممارسات نازية» اعتراضاً على وصف الغرب له بـ«الديكتاتور». ويهدد وزير داخليته سليمان سويلو بفتح الطريق أمام 15 ألف لاجئ شهرياً يرسلونهم إلى أوروبا، بعدما رفضت ألمانيا وهولندا السماح لوزراء أتراك بالقيام بحملات داعمة للتصويت بـ«نعم» في الاستفتاء الذي سيجري يوم 16 المقبل لتوسيع صلاحيات الرئيس الدستورية. يسعى الرئيس التركي لإعادة حكم الإعدام فتقرر ألمانيا في المقابل، عدم تسليمه معارضين يطالب بهم، وتنذره بروكسل بوقف المحادثات حول عضوية الاتحاد. لكن المنازلات تبقى في حدودها اللفظية.
لن ينتهي شد الحبال بين إردوغان وأوروبا، ما دام تهديد اللاجئين قائماً. تبتعد تركيا عن حلمها الأوروبي يومياً ويشتعل الهلع من تصاعد عدد المسلمين في القارة العجوز.
الهجرة لم تتوقف كلياً، والذين تأكلهم حيتان المتوسط، لا يزالون بالمئات رغم انخفاض عدد الواصلين إلى شاطئ الأمان. ومع أن التركيز هو على المهاجرين السوريين، غير أن الظاهرة باتت أكبر من ذلك بكثير، ولا يشكل السوريون إلا أقل من نصف الذين يحاولون بلوغ أوروبا. فمن بين 170 ألف مهاجر دخلوا اليونان عام 2016 كان 80 ألف سوري فقط، ومجموعة كبيرة من الأفغان وأخرى عراقية، وجنسيات غيرها. أوروبا تتحول إلى نقطة جذب لبؤساء العالم وغالبيتهم الساحقة من المسلمين. إلى تركيا يأتون من شمال أفريقيا ووسطها ومن شرق آسيا والدول العربية طمعاً في بلوغ يابسة الخلاص.
الاتفاق التركي الأوروبي، تكلل بالنجاح. لم يصل إلى الجزر اليونانية هذا العام أكثر من 3629 لاجئاً رغم مرور ما يقارب الأشهر الثلاثة. ما يجعل تهديدات تركيا تستحق أن يصغى إليها.
الخوف يتعدى سد حاجات الأفواه الجائعة، إلى الذعر من التغيرات الثقافية التي يفرضها مسلمون، صارت أعدادهم، لا سيما في بعض المدن، تنذر بتحولات اجتماعية سريعة.
هناك من يسأل إن كانت هجرة المسلمين إلى أوروبا مؤامرة مدبرة؟ كل المأزومين لديهم إحساس بمؤامرة تحاك ضدهم. تقارير إسرائيلية تحذر من أن المسلمين يسعون للوصول إلى السلطة من خلال تغلغلهم في الأحزاب السياسية الأوروبية.
ترتفع المخاوف حين توضح إحصاءات أن الجيل الثالث والرابع أكثر تديناً من آبائهم وتشدداً.
تحاول أوروبا أن تسد نقص المواليد من أوروبا الشرقية، فتجد نفسها مجتاحة من مسلمين، خصوبتهم فاقت التوقعات. إذ تصل عند البعض إلى 3 أطفال لكل امرأة بينما تبيّن الأرقام أن الأوروبيين لا تتجاوز نسبة الولادات عندهم 1.6 لكل امرأة. الجاليات المسلمة ستتكاثر ضعف السكان الأصليين، وستشكل النسبة الأعلى من الشباب المنتج والمقرر.
ليست مصادفة أن يجد اليمين المتطرف آذاناً صاغية لدى الناخبين. وأن يتحدث الزعيم الشعبوي الهولندي غيرت فيلدرز عن «غزو إسلامي وحشود من الشبان الملتحين في العشرينات، تهتف الله أكبر في أنحاء أوروبا». هذا لا يبتعد كثيراً عن تنبؤات الكاتب الفرنسي ميشال ويلبيك في روايته «خضوع»، بأن فرنسا ستقع في قبضة حكم إسلامي بعد انتخابات رئاسية تجري عام 2022.
ما كان فانتازيا أدبية منذ سنوات قليلة، صار أقرب إلى التصديق. في أوروبا حديث عن «غزو إسلامي»، ونبش للتاريخ، واستذكار للعثمانيين الذين أخروا نهضة أوروبا بحملاتهم العسكرية، وعودة إلى انهيار الإمبراطورية الرومانية وهجوم أفواج المهاجرين على أثرها. على الجهة المقابلة يتهم إردوغان أوروبا بأنها تشن «حرباً صليبية» ضد المسلمين، إثر قرار محكمة العدل بمنع الرموز الدينية في الشركات والمؤسسات، ومنها الحجاب. ويدعو الأتراك المقيمين في أوروبا وأعدادهم بالملايين «أن ينجبوا خمسة أطفال» لا ثلاثة كما نصح مواطنيهم في تركيا، وأن يعلموهم في أفضل المدارس، ويسكنوهم أحسن الأحياء، وأن يقودوا أفضل السيارات، لأنهم هم «مستقبل أوروبا».
الحرب لا تزال كلامية صحيح، لكن محمولها الثقافي أعمق من أن يمر عرضياً، وأخطر من أن يصمد في حيز الثرثرة المجانية العابرة.