محمد العريان
أقتصادي مصري- أمريكي
TT

واقع جديد لا يمكن تجاوزه

في واحد من أكثر البيانات الختامية المرتقبة من قبل مجموعة العشرين ومنذ فترة طويلة، يبدو أن الإدارة الأميركية سادت وتفوقت على الاعتراضات المقدمة من قبل كثير من البلدان، بما في ذلك أوروبا، وأستراليا، والصين.
وفي واحدة من النتائج التي، منذ فترة ليست بالقصيرة، كانت تعتبر غير محتملة وغير مرجحة على الإطلاق، أسقط البيان الختامي الموقف المعارض الصريح للحمائية، الذي اتخذته أكثر البلدان نفوذاً من الناحية الاقتصادية في العالم، وبدلاً من ذلك، خرج البيان الختامي بما وصفه خبراء أسواق بلومبيرغ بأنه «أكثر البيانات الصادرة مراوغة بشأن التجارة».
وكان المحرك الرئيسي وراء نتائج مجموعة العشرين رؤية الرئيس الأميركي دونالد ترمب القوية بأن الولايات المتحدة قد تراجعت، ولعلها راوغت، مراراً وتكراراً عبر الاتفاقيات التجارية المختلفة. وعلى هذا النحو، هددت الإدارة الأميركية الجديدة بفرض القيود الصارمة ضد الشركاء التجاريين ما لم تكن العلاقات التجارية المشتركة معهم حرة ومنصفة على حد سواء. كذلك، وفي جزء من تفكير الإدارة الأميركية فيما يتعلق بالإصلاحات الضريبية المقترحة، يقال إن الإدارة تسعى وراء إمكانية «تعديل الضرائب الحدودية» الرامية إلى زيادة الإيرادات لتعويض التخفيضات الضريبية وارتفاع النفقات الأخرى المتكبدة عبر مختلف مشروعات البنية التحتية الوطنية.
وفي حين أن هذه النتيجة هي من النتائج غير الاعتيادية من الناحية التاريخية بالنسبة لمجموعة العشرين فإنه لا ينبغي اعتبار البيان الختامي المشار إليه من قبيل المفاجآت غير المتوقعة؛ إذ إنه يعكس الواقع الجديد في الولايات المتحدة، الذي ليس بإمكان بقية دول العالم تجاوزه بسبب الموقف الأميركي التفاوضي القوي المتخذ مؤخراً. ولإدراك السبب الحقيقي، علينا النظر في اثنتين من الحقائق البسيطة التي تعبر عن استعداد ومقدرة الولايات المتحدة على السعي لاتخاذ مزيد من المواقف التي لا تتمتع بتأييد كبير على الصعيد الدولي الراهن.
أولا، الإدارة الأميركية الحالية على أتم استعداد لكسر الأعراف والتقاليد المتعارف عليها. وبكل تأكيد، وفي بعض الحالات، لقد انخرطت الإدارة الأميركية الجديدة بالفعل في التغيير الجذري لبعض من الحكم التقليدية الأكيدة والممارسات القائمة. ويأتي ملف التجارة في صدارة القائمة الدولية في هذا الصدد. وتشعر الإدارة الأميركية بالحاجة الماسة إلى متابعة تنفيذ ذلك، وإن كان بهدف وحيد وهو تعزيز الأسباب السياسية المحلية.
والإدارة الأميركية قادرة كذلك على فرض آرائها غير التقليدية على الآخرين، حيث تحتل الولايات المتحدة مركز القلب من النظام العالمي الحالي؛ من النواحي الاقتصادية، والمالية، والدبلوماسية، والعسكرية. فهي أقوى دولة في العالم المعاصر، والمصدّر الوحيد للعملة الاحتياطية على الصعيد الدولي، وهي صاحبة الأصوات الأكثر قوة وتأثيراً في كثير من المداولات متعددة الأطراف على مستوى العالم. كما أن الولايات المتحدة تملك ميزة تفاوضية قوية أخرى لم تتمكن بعض البلدان من ضبط أدائها وفقاً لها حتى الآن.
ومن خلال الإعلان الصريح، وبصورة متكررة عن موقف «أميركا أولاً»، بما في ذلك المخطط المبدئي للميزانية الأميركية المعلن عنه خلال الأسبوع الماضي، أرست الإدارة الأميركية الجديدة موقفاً تفاوضياً جديداً لا مراء فيه لأحد. وإضافة إلى ذلك، فإن الإدارة الأميركية تعلم أنه إن انتهى الأمر بالعالم إلى خوض حرب تجارية ضروس، فإن الأضرار الناجمة عنها على الاقتصاد الأميركي لن تكون كبيرة، قياساً بكثير ثم كثير من الدول الأخرى. وعلى هذا النحو، فإن البلدان الأخرى باتت في مواجهة موقف خاسر من جميع الجهات، يكون فيه قبول النتائج السيئة، أفضل بكثير من المخاطرة بنتائج هي بالفعل أسوأ.
ولكن هذا لا يعني أن العالم سوف ينزلق بالضرورة في دوامة من الحمائية التضخمية المريعة. فإذا ما سادت التصرفات العقلانية، فإن أكثر النتائج المتوقعة ترجيحاً هي سلسلة من إعادة التفاوض (على المستويات الثنائية، والإقليمية، ومتعددة الأطراف) تلك التي تترك الباب التجاري مفتوحاً مع إعادة مواءمة بعض الممارسات والإجراءات والتدابير التي تصب، ولا بد، في صالح الولايات المتحدة، بما في ذلك تلك التي تتعلق بالحواجز والمعايير غير الجمركية. إنه العالم الذي تحقق فيه الولايات المتحدة المكاسب الاقتصادية في بادئ الأمر، ولكنه الواقع الذي يواجه خطر تطلع البلدان الأخرى إلى التحرر من اعتمادها المفرط على النظام العالمي، الذي تسيطر الولايات المتحدة على قلبه النابض وعلى المدى الطويل.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»