خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من يعرف الحبال؟

يعتز الإنجليز بتاريخهم البحري وانتصاراتهم في المعارك البحرية. ومن ذلك أن البحار تلعب دوراً كبيراً في تراثهم. من أناشيدهم الوطنية الذائعة نشيد «بريطانيا تحكم الأمواج». تتطلب قيادة السفن البحرية معرفة جيدة بأشرعتها وصواريها وحبالها. أول درس يتعلمه تلامذة البحرية التعامل بالحبال وعقدها.
وفي كل سفينة رجل يعرف الحبال، وهكذا شاع لديهم المثل الذي يُضرب في الحاذق في قيامه بواجبه، في أي مهنة من المهن، أو مهمة من المهمات، بأنه «يعرف الحبال».
الواقع أن كل الشعوب تدرك أهمية «الحبال» في أنشطتها، سلماً أو حرباً. لم يُعرَف العرب بركوب البحار في أوائل تاريخهم، ولكن أمثلة كثيرة تضمنها التراث العربي أشارت للحبال وعقدها وفكها. لم تكن لديهم سفن، ولكن الجمل (سفينة الصحراء)، كما سمَّوه، تطلب كثيراً من شد الحبال وفكها في سير القافلة. شاعت بوحي ذلك كثير من الأمثلة «الحبلية». لعل أبرز مثال على ذلك كان قولهم: «اختلط الحابل بالنابل». الحابل هو مَن يصطاد الحيوانات بالحبال والشباك، والنابل هو من يصطادها بالنبال.
وقد وجدوا أن الصيد يتطلب الفصل بين الطرفين. وعندما لا يلاحَظ ذلك تختلط الحبال بالنبال، وتشيع الفوضى في العمل. وأوحى ذلك بهذا المثل الشائع. وهكذا يقال إن الوضع في سوريا اختلط فيه الحابل بالنابل. وقد اشتقوا مثلاً آخر في هذا السياق، فقالوا إن الخياط جعل الحابل مثل النابل. والمعنى هنا أن الحابل لغة هو أيضاً سدى الثوب، والنابل لحمته.
اختلاط الأمور بما يجرّها إلى الفوضى وارتباك الأحوال أمر لفت نظر حكماء الأمة. نجد أصداء لكل ذلك في العالم العربي. فهم يقولون في تونس عن ارتباك الأمور: «يديروها الفيران ويوحلوا فيها الثيران». وتسمعهم يقولون في مصر: «هاتي يا سدرة... ودّي يا مدرة».
ويقولون في العراق: «ما تعرف راسها من أساسها». ومن أقوالهم الشائعة: «شليلة (بكرة خيوط) وضايع راسها»، وهو عنوان لأشهر مسرحية هزلية كتبها يوسف العاني، وشاع اسمها تنديداً بشيوع الفوضى والفساد في بلادهم.
بيد أن انفلات الأمور، وشيوع الفوضى، ليس ظاهرة عربية قاصرة علينا. لوحِظَ مثل ذلك في كثير من الأمم والشعوب. فهؤلاء الإنجليز الذين نعتبرهم مثالاً للتمسك بالنظام والاحترام، تسمعهم يقولون أيضاً إن «الوضع أصبح ستات وسبعات» sixes and sevens. ورغم كونهم أمَّة بحرية كما ذكرنا بأعلاه، فإنهم عرفوا أيضاً فلتان الأوضاع، فقالوا إن البلد أصبح مثل سفينة بلا قبطان، وهو قول آخر من تراثهم البحري.
وهذا ما يقابله في تراثنا العربي القول الشعبي: «سفينة وكثرت ملاليحها (ملاحيها)». وقد سمعتُ أحدهم أخيراً يقول ذلك عن الأوضاع في العراق. وكان المونولوجست الشهير عزيز علي قد ضمها في مونولوجاته.