د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

في تأويل معنى الفساد

أصبح مفهوم الفساد في السنوات الأخيرة من أكثر المفاهيم تواتراً في الخطابين الإعلامي والسياسي العربيين، وبخاصة فيما سُمي بلدان الثورات العربية.
من هذا المنطلق نود طرح مسألة الفساد وكيف نتمثلها حقيقة، وهل هناك وعي معمق بالفساد وأبعاده المتعددة؟
يبدو لي أنه قد آن الأوان في بلداننا العربية ونحن نتحدث عن الحوكمة والحكم الرشيد وكيفية الإصلاح، أن نبذل جهداً جدياً وصادقاً في تفكيك مفهوم الفساد وإخراجه من بوتقة المعنى الواحد المباشر المحسوس والمقبوض عليه.
لا شك في أن الفساد، هذه الكلمة المخيفة، التي بات يرتجف منها كل سياسي وأصحاب الحقائب الوزارية، والتي أصبحت تعادل الفضيحة والخنجر الذي يمكن أن يُغرس في نعش أي سياسي بارز أو مسؤول مهم... لا شك في أنها تعني، طبقاً للفهم المتداول، التورط في تجاوزات مالية، والتصرف في المال العام بطريقة منحرفة. وطبعاً، فإن مثل هذا السلوك هو فساد واضح ويخضع كشفه إلى ملف واضح الوثائق والبيانات. ومثل هذا الفساد لا بد من التوضيح بأنه ليس دائماً من السهل إثباته؛ لذلك فإن التخفيف منه عادة ما يرتبط بحسن اختيار الأشخاص وتوزيع المسؤوليات؛ كي لا تتجمع في يد واحدة باعتبار أن البيروقراطية ورهن المسألة المالية في يد واحدة تنتج منه ديكتاتورية فجة تطل على الاستباحة والانحراف.
إذن، الفساد في أوله، وفي أحد أهم أبعاده، هو مالي بالأساس، ونحن إذ نولي كل الأهمية لهذا البعد مع التغاضي عن المظاهر الأخرى فلأن الفساد المالي يضر بثروة البلاد، ويضعفها وينخرها؛ مما يؤثر على حجم الثروة وميزانية الدولة ومداخيلها، ومن ثمة على الشعب ككل، وستجد الدولة نفسها من تراكم جرائم الفساد المالي غير قادرة على الإيفاء بمسؤولياتها.
ولكن ما يهمنا حقيقة في هذا المقال والهدف الأول من إثارته ليس التوقف عند هذا البعد رغم أهميته، بل إن القصد الجوهري هو لفت الانتباه إلى أن الفساد ليس مالياً فقط، وأن هناك مظاهر أخرى وأبعاداً أخرى قد تكون أحياناً أكثر خطورة.
أعتقد أن ظاهرة إهدار الطاقات وعدم الاستثمار في العقول المنتجة للعلم والفكر والإبداع في بلداننا العربية هو عين الفساد. بمعنى آخر، فإن تردد بلداننا في الرهان على الثقافة والمفكرين والعلماء رهاناً مركزياً هو في حد ذاته فساد باعتبار أن الفساد يعني إهدار ثروة ما، أحياناً تكون الثروة مالية وأحياناً رمزية، وهو أحد معاني مفهوم بيار بوريو لرأس المال الرمزي.
إن عدم الاستفادة الكاملة والكبيرة من المواهب والعقول والكفاءات الجامعية ومبدعي البحوث إنما يمثل تفويت فرص تنمية فكرية وعلمية كبيرة على بلداننا؛ وهو ما سيجعل الإسهام العربي في مجال الإنسانية فقيراً ومحدوداً.
ففي هذا السياق، نضع خطاب السخط الذي يقدمه المثقفون العرب حيث يشعر المثقفون بأنهم مهمشون.
طبعاً، يجب ألا يفوتنا أن ظاهرة تهميش المثقف والمثقفين في غالبية البلدان العربية اليوم تعبر عن رؤية للمسألة الثقافية، وترتيبها في مقام لا يليق بأهمية الثقافة في حياة الشعوب بشكل عام، ولا بطبيعة التحديات التي تعرفها بلداننا. لذلك؛ فإن كل تجميد للطاقات وللكفاءات في المؤسسات العربية هو فساد مالي ومعرفي في الوقت نفسه؛ مالي لأنهم يتقاضون أجوراً دون تقديم المقابل من خبرتهم وأفكارهم وذكائهم في إدارة الملفات العويصة، ومعرفي لأن مؤسساتنا تخسر كثيراً عندما نمنع عنها الاستفادة من خبرات ومهارات أبناء أوطاننا وبناتهم.
أيضاً، يبدو لنا أن إضاعة الوقت في بلادنا، وكيف أن الوقت المخصص للعمل لا يقارن بالوقت المخصص لإضاعة الوقت، وكأننا في لحظة استرخاء حضاري، والحال أن المجتمعات العربية تعيش أسوأ لحظة تاريخية حضارية وفي أمس الحاجة إلى طاقتها، وإلى كفاءاتها، وإلى الوقت وإلى كل ثروتها الطبيعية والرمزية.
هناك حقيقة لا بد من الاعتراف بها حتى نتقدم إلى الأمام، وهي القطع مع ثقافة الهدر، ومن المهم الانخراط في رؤية تأويلية واسعة وعميقة لمفهوم الفساد وعدم الاقتصار على المعنى المالي الواحد. وكي نتقدم في التأويل البنّاء لمفهوم الفساد لا مفر من الانطلاق من المبدأ الأساسي الذي يعتبر أن الإنسان في مجتمعاتنا هو الثروة الحقيقية، وأي ممارسات تنتهي بنا إلى هدر طاقاتنا هي الفساد بعينه.