ديفيد اغناتيوس
صحافي وروائي. وهو محرر مشارك وكاتب عمود في صحيفة "واشنطن بوست". كتب ثماني روايات، بما في ذلك "جسد الأكاذيب"
TT

الأتمتة الهائلة هي المسؤولة

تفاخر الرئيس ترمب بأن سياساته التجارية والاقتصادية التي ترفع شعار «أميركا أولاً» تجلب المزيد من فرص العمل في الصناعات التحويلية مرة أخرى إلى الولايات المتحدة. وهذا ربما من أكبر التعهدات التي ألزم ترمب نفسه بها أمام الناخبين المؤيدين له. ولكن هل هذه المزاعم فعلا صحيحة؟
فاز ترمب برئاسة الولايات المتحدة، على نحو جزئي، بسبب أنه عبر عن الغضب والسخط الذي يعتمل في صدور العمال الأميركيين حول فقدان الوظائف والأجور الراكدة. ولكن عبر هذه العملية، تعمد ترمب إلى الزعم بأن التجارة هي من الأسباب الكبرى في فقدان فرص العمل، وأن إعادة التفاوض في الاتفاقيات التجارية من شأنه أن يحفظ حقوق الطبقة المتوسطة من الشعب الأميركي.
وكل ما يعرضه ترمب حالياً هو بعض المسكنات التي تثير في النفوس الآمال الزائفة. وهو يشير إلى أن بعض الاتفاقيات التجارية الجيدة سوف تعيد إحياء «حزام الصدأ» واستعادة الأيام الخوالي الجميلة للصناعة الأميركية. ولن يحدث من ذلك شيء، والتظاهر بعكس ذلك ليس إلا مجرد خدعة.
خاض ترمب حملته الانتخابية على أسس غير صحيحة منها أن التجارة العالمية تتسبب في ضياع الوظائف الأميركية. ومن ثم قضى على اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي خلال الأسبوع الأول من ولايته، وهو يطالب الآن بإجراء تغييرات على اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية وغيرها من الاتفاقيات التجارية.
عمد ستيفن بانون، كبير المخططين الاستراتيجيين في إدارة ترمب، إلى تضخيم النزعة القومية الاقتصادية، محولا إياها إلى آيديولوجيا كاملة الأركان تفرض وجود حالة من النزاع الحقيقي بين العمال الذين يتعرضون للإجحاف من جانب العولمة، والنخبة التي تستفيد منها أيما استفادة. وبالإشارة إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، خلال مؤتمر العمل السياسي المحافظ، قال بانون إن ترمب «أخرجنا من اتفاقية تجارية مجحفة، وأعاد سيادتنا الكاملة إلى أيدينا».
ولكن الأرقام تظهر أنها معركة خاطئة. فلقد انخفضت الوظائف في مجال الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة عبر السنوات العشر الماضية، ولكن السبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى الأتمتة وليس إلى التجارة. حيث تحتل الروبوتات، وليس العمالة الأجنبية، كافة الأماكن الشاغرة المختفية من خارطة الوظائف الأميركية. وبدلاً من مساعدة العمال من أصحاب الياقات الزرقاء على مواجهة ذلك الواقع، فإن وعود ترمب باستعادة الوظائف المفتقدة، من شأنه أن يترك العمالة الأميركية في مواجهة الموجة الكبيرة القادمة من الأتمتة وفقدان المزيد من الوظائف.
وأكثر الأرقام إقناعاً تم تجميعها في عام 2015 بواسطة مايكل جيه هيكس وسريكانت ديفاراج من جامعة بول ستيت. ولقد أشارا إلى أن الصناعات التحويلية قد شهدت نوعاً من الانتعاش في الولايات المتحدة. على الرغم من الكساد الكبير، فإن تلك الصناعات حققت نمواً بنسبة 17.6 نقطة مئوية، أو ما يقرب من 2.2 نقطة مئوية في العام، بين عامي 2006 و2013. وكان ذلك أبطأ قليلاً مما حققه الاقتصاد الأميركي الكلي.
ولكن حتى مع النمو الذي حققه إنتاج الصناعات التحويلية، كانت الوظائف في تقلص مستمر. فالسنوات العشر بين عامي 2000 و2010 شهدت «أكبر انخفاض مسجل في وظائف الصناعات التحويلية في تاريخ الولايات المتحدة»، وفق ما خلص إليه خبراء الاقتصاد في جامعة بول. فما الذي تسبب في فقدان هذه الوظائف؟ بالنسبة للجانب الأكبر من الأسباب، لم يكن الأمر يتعلق بالتجارة، ولكن بالمكاسب الإنتاجية من الأتمتة. وعلى مدى العقد الماضي، وكما يشير التقرير المذكور، حققت مكاسب الإنتاجية 87.8 نقطة مئوية من الوظائف المفقودة في قطاع الصناعات التحويلية، بينما كانت التجارة مسؤولة عن 13.4 في المائة فقط من فقدان هذه الوظائف.
تسمح الروبوتات لأرباب الصناعات التحويلية بزيادة الإنتاج عن طريق استخدام العدد الأقل الممكن من الموظفين. وتلك ليست من نظريات المؤامرة التي تفرضها النخبة العالمية على لسان ستيفن بانون. بل إنها بكل بساطة حقيقة الحياة الاقتصادية والتقدم. وليست المعاناة في ذلك مقتصرة فقط على العمالة من أصحاب الياقات الزرقاء فحسب. فإن الآلات الذكية تقضي على المزيد من الوظائف في مجالات التمويل، والقانون، والصحافة أيضاً.
ولكي نبرهن على اتجاه ترمب فيما يتعلق بأسباب غضب وسخط العمالة الأميركية، دعونا نلقي نظرة على فقدان الوظائف في مختلف الصناعات الأميركية. ففي مجال صناعة السيارات، كانت نسبة 85.5 في المائة من فقدان الوظائف ناتجة عن مكاسب الإنتاجية، وفي قطاع الصلب وغيره من المعادن الأساسية، بلغت النسبة 76.7 في المائة من فقدان الوظائف، وفي مجال المنتجات الورقية، بلغت النسبة 93.2 في المائة، وفي المنسوجات وصلت إلى 97.6 في المائة.
يريد ترمب أن يلتزم بوعوده خلال حملته الانتخابية الرئاسية. وهذا أمر جيد للغاية من ناحيته. ولكن من خلال الابتعاد تماماً عن المتاعب الحقيقية لـ«ولايات حزام الصدأ الأميركية»، فإنه يمنح أنصاره ومؤيديه شراً مضاعفاً. إنه يمنحهم الأمل الزائف باستعادة الوظائف التي حلت محلها الآلات. وبكل أسف، فإن التاريخ الاقتصادي أبدا لا يتحرك إلى الوراء. وربما الأسوأ من ذلك، فإن ترمب يعطي للناس الأسباب لتفادي إعادة التدريب والتأهيل الذي يعدهم ويجهزهم لمواجهة الموجة الزاحفة القادمة من الأتمتة الهائلة، والتي يتوقع الخبراء لها أن تنجح في القضاء على نصف الوظائف الحالية بأكملها.

* خدمة: «واشنطن بوست»