سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

«مرج دابق» الرقميين

نصف عباقرة «وادي السليكون» ومليارديراته، أعدوا أنفسهم لمواجهة كارثة «نهاية العالم» التي يرون أنها أقرب من أي وقت مضى، وصار لزاماً عليهم الاستعداد لها.
هذه المرة، المخاوف لا تأتي من أناس شعبيين، أو مجموعة مكتئبين هامشيين يستسلمون للخرافة والإشاعة. هؤلاء نخبة العالم وزبدته الذين بنقراتهم يغيّرون الدنيا وبمبتكراتهم يسيطرون على الأمزجة، ومن المفترض أن لهم منطقاً تحليلياً رياضياً صارماً، وقدرة عقلانية على الاستنباط والاستنتاج لا تخضع لتنبؤات العرّافين وقارئي الطالع، كما العامّة والغوغاء.
من بين المستنفرين مدير سابق في «ياهو»، وأحد مؤسسي موقع «لينكد إن»، ومسؤول سابق في «فيسبوك»، وغيرهم أصحاب شركات تكنولوجية عملاقة. تتراوح الاستعدادات بين تكديس كميات كبيرة من الطعام تكفي لسنوات، وشراء غابات بعيدة، أو ملاجئ فخمة كانت مخابئ للصواريخ، قبل ازدهار تجارة الخوف من «الأبوكاليبس». هناك أيضاً من يتدرب على استخدام القوس والنشاب للدفاع عن نفسه لأنه يأنف من الأسلحة النارية، ومن جهّز طائرة هليكوبتر للانتقال السريع إلى مكان آمن. على أي حال، تقليعة شراء مساكن نائية وتجهيزها، باتت شائعة، ونيوزيلندا هي الأرض الأكثر جذباً، ووصول السيد دونالد ترمب إلى سدة الحكم، كان الشعرة التي قصمت ظهر البعير، والنافذة التي فتحت الأمل أمام متطرفي أوروبا وبثت الرعب في القلوب.
وكان وزير الدفاع الفرنسي السابق جان بيار شوفنمان ذو النزعة الإنسانية محقاً حين قال: «إن لم يكن وصول ترمب إلى الرئاسة نهاية العالم، فماذا يكون؟».
وكيفما بحثت على الشبكة الإلكترونية تعثر على من يعرض خدماته لإنقاذك من النهاية السوداء التي تنتظر البشرية. جادون هم أم مازحون؟ من الصعب التأكد. لكن هناك من يعرض نقلك إلى كوكب آخر، ومن يدّعي قدرته على استصدار ما يشبه «صكوك غفران» من الكنيسة، مقابل مبلغ من المال. تجارة بيع الأمان للمعذبين رائجة. وفي أميركا بالتحديد، بالتأكيد مربحة.
كل يرى ملامح الطوفان القادم تبعاً لتحليلاته، والزاوية التي ينظر منها. بيل غيتس نفسه رئيس شركة «مايكروسوفت»، لم يسلم من موجة التشاؤم ونبّه أثناء مشاركته في منتدى دافوس الاقتصادي من موجة إرهاب بيولوجي، قادمة بقوة، قد تكون سبباً في «نهاية العالم». والرجل صاحب مؤسسة تعنى بمكافحة الأوبئة وابتكار اللقاحات التي تحدّ من انتشار الأمراض. ومع ذلك يجزم أغنى رجل في العالم أن الاستعدادات قاصرة والإمكانات محدودة أمام خطر من هذا النوع.
ليست المرة الأولى التي ينتظر فيها المتوجسون كارثة تتسبب بفناء عدد كبير من البشر ويحلمون بأن يكونوا من الناجين. بإمكانك أن تحصي ما يقارب 18 محطة تراجيدية منذ القرن الماضي إلى اليوم، ظن الناس، وهم يجتازونها، أنهم هالكون لا محالة. من أزمة 1929 المالية العالمية، إلى الحرب الكونية الثانية، واستخدام القنبلة النووية في هيروشيما وناغازاكي، ثم اشتعال الحرب الباردة وتصاعد وتيرة التسلح، وصولاً إلى انهيار البرجين في 11 سبتمبر (أيلول) والحرب على العراق. ولعل الموعد الأخير الذي نتذكره وأثار موجة هائلة من الذعر، كان عام 2012، ورافقه أيامها، تسونامي روايات وأفلام حول الفناء الأخير.
خشيت البشرية دائماً من كوارث الطبيعة، وجنون براكينها وزلازلها، وتحسبت من ارتطام كواكب ونشوب حروب وانتشار أوبئة. لكن المستجدّ أن مصادر الخطر صارت أكبر وأعظم. التكنولوجيون يدركون أن تدميراً يلحق بشبكتهم، قد يحولهم إلى عميان في عالم لن يخلو من مبصرين في مكان آخر. والبيولوجيون يفهمون معنى إدخال تعديلات على فيروس ما معروف في المختبرات، وتحويله إلى أحجية وبائية تستطيع أن تفتك بالملايين. الأسلحة الكيميائية صارت لعبة المضطهدين والعجزة، وقد تصبح في متناول أي شبكة مجرمة. هناك من يخشى حتى جنون قادة كبار قد ينتقلون، في غفلة من الجميع، من طور الاحترام المتبادل إلى النقمة العاتية. من نزق أصحاب المقامات العالمية إلى إرهاب مجانين «داعش»، يرتعد حتى عقلاء هذا الكوكب وجهابذته من لحظة جنوح مدمرة، بعد أن تطورت أدوات الفتك الجماعي وتنوعت.
لم تعد الخليقة بحاجة إلى الوهم والخيال الخصب كي تفقد طمأنينتها. ففي نشرات الأخبار، وعلى مواقع التواصل من الصور والقصص الواقعية ما يكفي لبث الرعب في قلوب سكان ثلاثة كواكب بحجم الأرض. الجشع البشري وصلت أنيابه لتقضم غلاف الأوزون. الاحتباس الحراري يهدد بإغراق دول بأكملها بالمياه. وتزايد إمكانية وصول المتطرفين إلى الحكم خلال هذا العام في عدة دول أوروبية مثل فرنسا وهولندا، وهم أيضاً قوة متصاعدة في إيطاليا واليونان والدنمارك والسويد والمجر، أمر يبث الذعر في النفوس. عدم وصول هؤلاء إلى السلطة لا يعني زوال خطرهم، فمن سيحكم سيضطر حتماً إلى اتخاذ مواقفهم التي تستميل وتغوي في الحسبان، وشعبيتهم بعين الاعتبار.
كل له روايته حول «نهاية العالم»، لكن مصدر الخوف واحد. هو ذاك الإحساس الدفين بأن البشرية قد بغت وتجبرت وفقدت توازنها، ولا بد أن العدالة ستقول كلمتها. في العمق لا يختلف عبقري «وادي السليكون» عن مقاتل صغير في تنظيم داعش في سوريا ينتظر معركة «نهاية الزمان» في «مرج دابق». كلاهما يؤمن، وإنْ على طريقته، بأن كرة النار الملتهبة تكبر وتتدحرج في كل اتجاه. أحدهما يستعجل الصعود إلى الجنة لأنه يرى خلاصه هناك، والآخر يسعى ليستبقي نفسه على الأرض عدة سنوات أخر. كل منهما متيقّن أن الجنون بلغ حداً يصعب الاستمرار معه، وأن النهاية قد أزفت.