فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

«التفاهة» باغتباط... وأسرار الامتلاء الغامض

مرّ زمن كانت به التفاهة عبارة عن فشل في تأويل ما هو رصين إما لضعف في الاستتباع، أو لجهل بالمعنى، أو لرغبة خالصة بأن تحول الأمور الجادة إلى حالة من التفاهة. منذ صرعة الأجهزة الذكية واللوحية وبعض المنبهرين بها من أدباء وكتاب يستلذ بإنهاء دور المثقف، باعتبار الشعبي قد «برز» وأخذ مساحته، وصار له منبره، على طريقة الإعلامي الجماهيري الشعبوي «منبر من لا منبر له»، لكن مشكلة التفاهة السوشلية أنها ليست نسخة تالفة من نصٍ جاد، كما في موجة الشبان الوجوديين في فرنسا بعد تحول «السارترية» إلى موضة، اختصرت حينها بنوع لباس، وطريقة شعر، وفلتان سلوك، وصارت على الأرصفة مشاهد الشبان والفتيات مجرد أزياء تافهة ولا قيمة لها، ولا تعبر عن الفلسفة الوجودية بكل نسخها «المسيحية» كما لدى كيركغارد وغابريال مارسيل، أو اللادينية لدى هيدغر وسارتر، لقد كان تمردًا مراهقًا استخدمت بعض أفكار الوجودية فيه، لكنهم على المستوى الفكري يمارسون التفاهات، ولا يستطيعون العيش إلا بالتفاهات.
الظاهرة السوشلية غلبت الجميع، طوفان جارف، هجاؤها لن يخفف من زعقها، وأصعب المباحث أن تحاول تأصيل جذر التفاهة، أو البحث عن سببه وعلته، قد يبدو الحديث عن كون تلك الظاهرة من جملة ما أتت به انهيار المراكز وتفتت المراجع، وعودة كل شخصٍ إلى ظلّه يعطيها عمقًا أكثر مما تستحقه، لكن يمكن تناول إشكالياتها على مستويين؛ الأول: الصعود التقني، والصرعة التكنولوجية، وهذه بدت بواكيرها منذ أن انبهر العالم بـ«القنبلة الذرية»، حينها راح فيلسوف مثل هيدغر يبحث بهذه التقنية الصانعة، وسماها «ميتافيزقيا العصر»، واستمرت مراقبة هذا الزحف المهول باعتباره يجعل الإنسان تابعًا لها، من هنا وضع هيدغر مقالته عام 1953 تحت عنوان «مسألة التقنية»، وبها كتب: «إنني أحاول أن أفهم ماهية التقنية»، وفي جواب آخر له يرى «في ماهية التقنية الظهور الأول لسر أكثر عمقًا بكثير» يسميه «الحدوث» ويشرح: «يمكنكم أن تفهموا أنه لا مجال للحديث عن مقاومة أو إدانة للتقنية ولكن الأمر يتعلق بفهم ماهية التقنية والعالم التقني».
مفهوم آخر طرحه فرنسوا ليوتار بكتابٍ في الثلاثينات من القرن العشرين كان امتدادًا لفكرة «التقويض» الهيدغرية، أطلق عليه ليوتار «ما بعد الحداثي» كبرت كرة الثلج هذه، وفتحت سجالات «التجاوز» للحداثة، على مستوى الفنون، والعمارة، والفلسفة، والأدب، وسواها، والنقاش حول التقنية وتفجراتها وارتباطاتها بالرأسمالية أو الحدود والثقافات والمراكز كان مطروحًا. وقد استفاض بذلك الفيلسوف المناوئ لليوتار وهو هابرماس بكتابه «العلم والتقنية كآيديولوجيا». وبرغم النقد المنطلق من أرضية اشتراكيته فإن تيري إيغلتون لم يخطئ الوصف حين اعتبر الحداثة الصاعدة والبعدية مما تحفر له نقض العمق، والمراكز، والجذور، والأسس، وهي «فن استبطاني، متأمل لذاته، واشتقاقي وانتقائي وتعددي، يميع الحدود بين الثقافة الرفيعة، والثقافة الشعبية، كما يميع الحدود بين الفن والتجربة اليومية». ذلكم هو المستوى الأول، بالتأكيد أن التقنية ظاهرة تأتي ضمن انفجارات واشتعالات في الصناعة والطبابة والعلوم الإنسانية.
أما المستوى الآخر، وهو الأكثر إلحاحًا على التشخيص، فهو المستخدم، أو الممتطي للتقنية، وقد أثمرت تلك الصرعة السوشلية عن أشخاصٍ يجيدون التثقيف والحديث، ولهم مسارهم العلمي أحيانًا، وقد يكون ذلك مفيدًا، غير أن النقد سأصبه على «النجوم التافهين»، الصاعدين على هذه المنابر، طارحين أنفسهم قدوات للأجيال الحالية الحيّة، والأجيال التي ستأتي لاحقًا بعد قرونٍ من الزمان. أولئك ينبتون كالكمأة بلا جذرٍ ولا أس، ويغتبطون بالتوجيه والحديث بتوافه الأمور، ويغترون بالجلبة المحيطة بهم من أناسٍ تافهين مثلهم، وأنتجت الظاهرة السوشلية قلة الأدب، وتعميم الشتيمة، والعبث بأخلاق المجتمع، وتطرح للأسف هذه الأسماء بالمنابر والنوافذ على أنها تحمل قيمًا معينة، والواقع أنها حالة تجهيل منظّم، فعزف الطلاب حتى عن كتبهم المدرسية، وصارت السوشلة إدمانًا ومرضًا، وفجرت التقنية تلك عن دمامات في الذوات، وانبهار بالشخصية من دون مبررات حقيقية علمية أو عملية، هذه ظاهرة لا يمكن تشخيصها إلا بوصفها «تفاهة» والتفاهة ليست شتيمة بل وصف محايد مؤدب للأشخاص الذين يتدخلون بما لا يعرفون، وفي المعاجم أن التافه مشتق من «تفه» و«تفه الطعام أي صار بلا طعمٍ أو ذوق»، وفي الحديث النبوي وصف الرويبضة بأنه «التافه الذي يتكلم بأمر العامة»، والحديث من رواية أنس بن مالك، ورواه أحمد بمسنده، وصححه الألباني.
هذه هي الظاهرة السوشلية، لا ترتبط بمعنى، ولا تحقق غرضًا، والواجب علينا جميعًا تأسيس وعي يجعل لهذه الثرثرة حدودها الطبيعية، لأن غزوها، وتحويل كل شيء إلى تفاهة متداولة بمنابرها يفرغ كل عمقٍ بهذا العالم، لأن الجمال بكل مجالاته الفنية والأدبية واللغوية لا يمكن أن يأتي إلا عن طريق جذر، وأن يسقى جذعه بعمق واطلاع وفهم، لكن أن يتصدر كل شخصٍ ناتئ جاهل لإصدار النتائج والحقائق والقطعيات، وأن يضع نفسه ملهمًا ونبراسًا ودرسًا وأسًا، فهذه طامة كبرى، تدمر كل الجماليات الدنيوية التي بين أيدينا، إنه انحطاط وانهيار وجنون، وهذه المقالة هي إدانة لها.