د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

نحو ازدهار ثقافي بناء

رغم كل الأزمات التي عاشتها وتعيشها بلداننا العربية، فإن مقاربتها للقطاع الثقافي ظلت على حالها: الثقافة يجب أن تكون قطاعا منتجا (ماديا).
هكذا يجيب بكل ثقة في النفس المشرفون على توزيع الميزانيات على وزارات الثقافة في معظم بلداننا. وكما نرى فنحن أمام إجابة تبعث على الحزن واليأس، وتزيد من حدة إحباط المثقفين والمبدعين.
ولكن قبل مناقشة الموقف القديم الجديد الذي يتعاطى مع المجال الثقافي بوصفه قطاعًا عديم الصلة بمفهوم الإنتاج الفعلي، يبدو لنا أنه من المهم وضع بعض النقاط على الحروف التابعة لها، والتساؤل: ما معنى قطاع منتج؟ وهل الإنتاج هو فقط مادي؟
الظاهر أننا أمام مقاربة مادية محسوسة بالأساس تتجاهل الجزء الرمزي من الإنتاج الإنساني الثقافي، وتتناسى ما اصطلح على تسميته في مجال التراث مثلاً بالتراث المادي والتراث اللامادي، وتقفز - أي المقاربة المادية - على ما تقوم عليه الآيديولوجيا الماركسية مثلاً من تمييز بين البنى التحتية والأخرى الفوقية، باعتبار أن هذه الأخيرة تمثل الرمزي الثقافي المعرفي من الإنتاج الاجتماعي.
من المهم الانطلاق من فكرة مركزية، مفادها أن تمثلات المسؤولين في بلداننا العربية للفعل الثقافي تمثل السبب الرئيسي للأزمة التي تعرفها مجتمعاتنا. فالفعل الثقافي لا يستند إلى إرادة واضحة وثقة في مدى قدرة الثقافة على التغيير الاجتماعي الحقيقي، الذي يؤثر إيجابيًا في صورة حصوله على مناحي الحياة الأخرى كافة.
إذن نحن في حاجة ماسة إلى خلق إرادة واعية تولي للثقافي، سواء كرأسمال متوارث أو كإبداع جديد الأهمية اللازمة. ولا تفوتنا الإشارة ونحن نتبنى هذا الاستنتاج إلى أن كثيرا من النخب السياسية يفتقد إلى هذه الإرادة وإلى الوعي بضرورة وجودها. وهو افتقاد ذو طبيعة بنيوية، لذلك فإن كل التحولات الخطيرة التي نعرفها منذ سنوات وكان الإرهاب عنوانها الأكبر والهزات وسقوط الضحايا وتدهور صورتنا في العالم، لم نستطع إجراء تغييرات على البنيوي في كيفية تعاملنا مع الثقافة. فرغم كل هذه الإنذارات والإشارات الضوئية الحمراء، فإننا لم نحدث ثورة وانقلابًا في كيفية تصورنا لدور الثقافي في تحصين الذات العربية من آفات الظلامية والانغلاق، والوقوع في شباك الإرهابيين وأعداء الإسلام.
صحيح أن هناك وزارات ثقافة في بلداننا تحاول العمل والاجتهاد، وتوفر اعتمادات للأنشطة الثقافيّة، ولكن الغالب على معطم هذه الوزارات هو تسيير العمل الثقافي بطريقة تُظهر وجود حركية ثقافية، وتبرئة ذمة أكثر منه إرادة سياسية واضحة وحقيقية ومعمقة بأهمية الثقافية في تحقيق معركة التنمية والتقدم، وحل المشكلات العالقة في العقلية والوجدان العربيين. وهو ما يفسر غياب استراتيجيات ثقافية واضحة منشغلة بالثقافي المحض لا بتسييس الثقافة في كثير من بلداننا.
اللافت للانتباه أن المأزق العربي اليوم في غالبيته ثقافي، والمشكلة ثقافية بالأساس، حيث نسجل تعدد النظرة إلى العالم وتناقضها من فئة إلى أخرى داخل المجتمع الواحد، وهو تعدد لا يندرج ضمن الثراء الثقافي الاجتماعي بقدر ما يعبر عن انشقاق اجتماعي وتصفية حسابات، كثيرًا ما تكون الثقافة أرض المعركة فيها.
أيضًا يعود السبب الرئيسي لإثارة هذا الموضوع بالذات، إلى كون عدم فض المشكل الثقافي تتبعه فواتير اقتصادية سياسية باهظة جدًا، وهو الأمر الحاصل اليوم في بلداننا؛ ذلك أن حالة الانفصام الثقافي والتردد بين سجلات ومرجعيات ثقافية مختلفة دون حدوث مزج عفوي وإبداعي بينها، يُنتج مع تراكم مساحات الانفصام ذوات لا يمكن الوثوق في أدائها الإنساني والاجتماعي، إضافة إلى أن ظاهرة الاغتراب عن جوهر الدين الإسلامي ومقاصده السمحة عند الشباب التي انتدبتها بسهولة فائقة شبكات الموت والظلامية، إنّما في حقيقة الأمر تؤكد وجود مشكل قيمي ثقافي وثغرات ذات بعد ثقافي لم يقع التفطن والانتباه إليها، أو أن معالجتها لم تتم حسب الدواء اللازم والمطلوب.
ولقد رأينا تأثير الإرهاب - الذي هو يعبر عن سلوك ثقافي متأزم - على الاقتصاد في بلداننا، وتعطل السياحة في أكثر من بلد، وهروب المستثمرين من دول أصبحت تُوصف ببؤر التوتر، وبأنها تفتقد إلى عامل الأمن أحد أهم شروط الاستثمار الأجنبي.
يجب أن نتعاطى مع القطاعات الثقافية في بلداننا من منطلق كونها قطاعات أكثر إنتاجية من المؤسسات الاقتصادية ذاتها: إنها تنتج الفكر والوجدان والروح، أي أنها منتجة للإنسان الذي هو القيمة الأولى في المجتمع، ولا وجود لأي شيء خارجه؛ ذلك أن الثقافة بما تتضمنه من قدرة جمالية على تشكيل داخل الإنسان بطرق تولي الاعتبار الأكبر للتبادلية والغيرية والانفتاح والتصالح مع الذات من خلال النقد كبند أساسي من بنود الازدهار الثقافية التي لم تحدث بعد في بلداننا وتصوراتنا... مثل هذا التصور لوظيفة الثقافة هو الذي لا نزال نفتقد إلى مواجهته بكل جرأة وشجاعة وإرادة.