إميل أمين
كاتب مصري
TT

كيسنجر... استشراف للمستقبل المأزوم

حتى الساعة يبقى هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأميركي ووزير خارجيتها الأسبق، أحد أهم، إن لم يكن بالفعل أهم عقلية سياسية في الولايات المتحدة، ولهذا فقد جرى العرف أن يهرع الجميع إليه، لا سيما في الأوقات الحساسة، والمنحنيات التي يشتم فيها رائحة خطورة ما... هل نحن في أوقات على هذه الدرجة من الأهمية؟
في هذا الإطار كانت مجلة «الأتلانتيك» الأميركية ذائعة الصيت، تجري عبر أحد أبرع وأنشط صحافييها جيفري غولدبيرغ حوارا مطولا مع كيسنجر، تناول أهم وأخطر المسائل الحساسة والشائكة في العالم، المترتبة على الفوز غير المتوقع لترامب.
حديث كيسنجر يحمل درجة ما من المخاوف قد تتزايد أو العكس بحسب توجهات ترامب، فهو يرى أن وصول ترامب إلى سدة البيت الأبيض حتما سوف يتسبب في تسريع تراجع مستوى الولايات المتحدة، وحدوث صدمة، ستساهم في خلق فرصة لحدوث تراجع واضطراب خطيرين... هل من ملف بعينه يبرع فيه كيسنجر ويعطي رأيا واضحا عنه؟
المعروف أن كيسنجر هو الأميركي الأول الذي استطاع اختراق جدار الصين السياسي الكبير، كان ذلك في أوائل سبعينات القرن المنصرم، والآن ها نحن نرى رئيسا له مواقف مثيرة وخطيرة من الصين وكذلك من الصينيين، حيث يعتبرهم منافسين غير نزيهين لبلاده، وترامب يفكر دائما بعقلية رجل الأعمال، أو التاجر، الذي يود تحقيق أعلى قدر من المكاسب، في مقابل أدنى مستوى من التكاليف.
يخبرنا كيسنجر أنه عندما كان موجودا في الصين في أبريل (نيسان) الماضي، تساءل الكثير من المحللين الصينيين عما يحدث في الساحة الأميركية، وعما يحاول ترامب القيام به، وكيف سيكون ردهم على تعليقاته، ولاحظ أن الصينيين مهتمون بما يقوله ترامب حول المفاوضات الأميركية الصينية، ويتوقعون أن يكون مصير هذه المفاوضات صادما مثل سلوكه المثير للاستهجان...
كيف سيقود ترامب أميركا وهو المعدوم الخبرة السياسية؟
الرد قدمه كيسنجر، أن منظومة الأمن القومي هي التي سوف ترسم له، في غالب الأمر، ملامح ومعالم تلك القيادة، بل إلى أبعد من ذلك يمكننا القول إن مجمع الاستخبارات والمجمع الصناعي العسكري، قد ساعدا في وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وعلى غير المصدق لهذا الحديث أن ينظر إلى الجنرال مايكل فلين مدير المخابرات العسكرية الأميركية السابق، الذي انشق على إدارة أوباما واستقال منها، وتاليا انضم إلى حملة ترامب، والذين تابعوا خطاب النصر، وجدوا ترامب ينادي عليه من أعلى المنصة، ليشارك فرحة الجمهوريين المنتصرين.
ما الأشياء التي ينصح بها هنري كيسنجر الرئيس الأميركي الجديد وعليه أن يقوم بها؟
عند رجل السياسة الأميركية العتيد يجب أن يسأل الرئيس القادم نفسه «ما هي الأشياء التي نسعى لتحقيقها؟ وما هي الأشياء التي نحاول تجنبها، حتى لو كان يجب محاربتها بشكل شخصي؟ والأجوبة عن هذه الأسئلة هي الركائز الأساسية لسياستنا الخارجية، التي ينبغي أن تشكل أساس القرارات الاستراتيجية التي يتخذها أي رئيس» في تقدير الرجل التسعيني، ويزيد أن العالم يعيش حاليا حالة من الفوضى، حيث إن الاضطرابات الأساسية التي تحدث في أجزاء كثيرة من العالم في آن واحد، خلقت معظمها بسبب المبادئ المتباينة للأطراف المتنازعة، ولذلك فإن الولايات المتحدة والرئيس الجديد يواجهان مشكلتين: أولا: كيف يمكنهما الحد من حالة الفوضى الإقليمية السائدة العالم في أوقاتنا الراهنة؟ وثانيا كيف يمكن خلق نظام عالمي متماسك يقوم على أساس المبادئ المتفق عليها، والتي تعتبر ضرورية لعمل النظام العالمي بأكمله.
يفرد الحوار مساحات واسعة للشرق الأوسط والعلاقات الأميركية مع المنطقة التي ظللتها ظلال رمادية كثيفة بين القائلين بأن الاهتمام بتلك الرقعة من الجغرافيا قد تضاءل وسيتضاءل أكثر مستقبلا، وبين المؤكدين على أهميتها كمفتاح جوهري للشرق الأدنى حيث روسيا والصين.
يتحدث كيسنجر عن العلاقات السنية الشيعية فيستفيض، ثم يتوقف طويلا عند الأزمة السورية، والاتفاق النووي الإيراني، غير أن السؤال الجوهري عن الحل الأمثل لتحقيق السلام بين إسرائيل والعرب يبقى دائما وأبدا شغلنا الشاغل...
يرى كيسنجر أن الصراع الدائر في سوريا وحولها يتصف بالتعقيد، وقد أدى ذلك لمزيد من تعقيد حل الدولتين بين فلسطين وإسرائيل، إذ إنه يمكن لدولة أخرى صغيرة أن تنجو في هذه المنطقة التي انهارت فيها سوريا والعراق ولم تعودا قادرتين على فرض السيادة والوحدة، وبات بالطبع من المستحيل عليهما المساهمة في ضمان أمن المنطقة.
يلفت كيسنجر الانتباه إلى جزئية مهمة في حديثه وهي أنه ينبغي على إسرائيل أن تتنبه إلى أنه على المدى الطويل سوف تتأقلم الدول المحيطة بها مع التطور التكنولوجي بشكل أو بآخر في المستقبل، وعاجلا أو أجلا سوف تشكل تهديدا لوجودها. ولذلك فإن الإسرائيليين يفاوضون بشكل عدائي ومتشدد، ليثبتوا لأنفسهم أنهم يأخذون هذه التهديدات بعين الاعتبار، أما العرب فإنهم منقسمون على أنفسهم بشأن رويتهم للحل النهائي.
رؤية كيسنجر تتصل كذلك بأوروبا، تلك القارة التي صدرت للعالم التنوير، واليوم تكاد تجد مشاكل كثيرة في «حركتها التاريخية وعقليتها الطموحة»، وباتت مشغولة بل مهمومة بسياقاتها الداخلية، والمليئة بالمتناقضات، ما يجعل شعلة أزمنة التنوير يكاد ضوؤها أن يخفت.
وفي كل الأحوال يمكن اعتبار حوار كيسنجر تأريخا واستشرافا، تأريخا للماضي الذي كان، واستشرافا للمستقبل المأزوم الرابض خلف أبواب الكون.