د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

معالجة السكري... تكاليف مادية خيالية

بالعودة إلى الموروثات الثقافية، لا تزال الحكمة القائلة: «درهم وقاية خير من قنطار علاج» هي الحكمة السارية المفعول، وبدرجة الامتياز. وحينما تشير المصادر الطبية إلى أن ثمة طريقا واضحا، ومن السهل سلوكه للوقاية من الإصابة بمرض السكري، كما أن هناك طريقا واضحا ومن السهل سلوكه لتفادي الإصابة بكثير من تداعيات ومضاعفات مرض السكري، فإن من البديهي والمنطقي أن تتضافر الجهود الطبية لتثقيف عموم الناس بكيفية إمكانية عملهم على تحقيق تلك الوقاية من الإصابة بالسكري، وكيفية عملهم على تحقيق وقف الإصابة بتداعياته ومضاعفاته. كما أن من البديهي والمنطقي أن ينتبه الإنسان إلى أن عليه مسؤولية أمام نفسه للوقاية من الإصابة بهذا المرض وتداعياته ومضاعفاته عبر الاستفادة من جهود التثقيف الصحي وجهود المعالجة الطبية التي تتوفر له.
ولرفع مستوى الجدية في الحديث حول شأن مرض السكري، وفي عالم يُحركه الاقتصاد وأرقام التكاليف المالية، دعونا نراجع أحدث الدراسات الطبية الإحصائية التي تناولت جانب التكاليف المادية لمعالجة مرض السكري في واحدة من دول العالم؛ وهي الولايات المتحدة. وضمن عدد 27 ديسمبر (كانون الأول) الماضي لمجلة «جاما» الطبية للجمعية الطبية الأميركية، نشر الباحثون الأميركيون نتائج دراستهم لمتابعة مقدار الإنفاق المالي على تقديم الرعاية الصحية الشخصية Personal Health Care والصحة العامةPublic Health في الولايات المتحدة الأميركية، وذلك خلال كل عام للفترة ما بين عامي 1996 و2013.
وشارك في تنفيذ الدراسة باحثون من «معهد القياسات الصحية والتقييم» في سياتل بولاية واشنطن، ومن جامعة واشنطن، ومن البنك الدولي، إضافة إلى 6 هيئات بحثية علمية وطبية أخرى. وذكر الباحثون في مقدمة دراستهم أن الإنفاق الأميركي لتقديم الرعاية الصحية مستمر في الازدياد، ووصل إلى أكثر من 17 في المائة من الناتج القومي، وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا يزال من غير الواضح معرفة مقدار الإنفاق على كل حالة من مختلف الحالات المرضية، وهدف الباحثون من دراستهم إلى إجراء مراجعة منهجية وشاملة لتقدير أوجه الإنفاق الأميركي على الرعاية الصحية الشخصية وعلى الصحة العامة؛ وفقًا لكل نوع من الحالات المرضية، واختلاف العمر، ومجموعة الجنس، ونوع الرعاية التي يتم تقديمها. وتمكن الباحثون من الحصول على المعلومات اللازمة لهذا البحث من 183 مصدرًا للمعلومات حول 155 نوعا من الحالات المرضية.
ولاحظ الباحثون في نتائج دراستهم أن مرض السكري هو الأول من بين عشرين مرضًا تستحوذ على أكثر من نصف مقدار الإنفاق المالي لتقديم الرعاية الصحية بالولايات المتحدة. وأفاد الباحثون بأن الولايات المتحدة أنفقت بالفعل على تشخيص ومعالجة مرضى السكري أكثر من 101 مليار دولار خلال عام 2013 وحده، وهو ما يُمثل نموًا يفوق بمقدار 36 ضعفا مقدار النمو في الإنفاق على أمراض القلب، التي هي واقعًا لا تزال السبب الأول للوفيات.
وعلق الدكتور جوزيف ديليمان، الباحث الرئيسي في الدراسة والأستاذ المشارك في «معهد القياسات الصحية والتقييم» في سياتل، بالقول: «وبعد إجراء التعديل اللازم وفقًا لمقدار التضخم، نرى أن الولايات المتحدة تزيد في إنفاقها على مرض السكري كل عام بمقدار يفوق 6 في المائة عن العام الذي قبله. وهذا حقًا معدل نمو ملاحظ بشكل واضح، لا سيما أنه نمو بمقدار يفوق سرعة نمو الاقتصاد ككل ويفوق النمو في معدل الإنفاق على الرعاية الصحية ككل أيضًا». وقال الدكتور ديليمان تحديدًا: «الإنفاق على السكري نما بسرعة تفوق مقدار الضعف لسرعة نمو الإنفاق على جميع الحالات المرضية الأخرى مجتمعة». وكان الباحثون قد ذكروا في نتائج دراستهم أن مقدار النمو السنوي في الإنفاق الصحي بين عامي 1996 و2013 كان في المتوسط 3.5 في المائة.
وأشار الباحثون إلى أن الإنفاق الأميركي على الرعاية الصحية بلغ 2.1 (اثنان فاصلة واحد) تريليون دولار في عام 2013 وحده، وهو ما يُعادل 17 في المائة من الناتج القومي للولايات المتحدة. وفي عدد مجلة «جاما» نفسه، قدم الدكتور إيزكيل إيمانويل، من قسم علوم الإدارة الطبية في «كلية بريلمان للطب» بجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا، مقالة تحريرية بعنوان: «كيف يُمكن للولايات المتحدة أن تنفق الدولارات بشكل أفضل للرعاية الصحية»، وذكر في مقدمتها أن الولايات المتحدة أنفقت 3.2 (ثلاثة فاصلة اثنين) تريليون دولار على الرعاية الصحية في عام 2015، وهو حجم مذهل ولا يُمكن تخيله، ومن المتوقع أن يفوق حجم إنفاق الرعاية الصحية بالولايات المتحدة في عام 2020 اقتصاد ألمانيا».
وفصّل الباحثون في دراستهم توزيع الـ2.1 تريلون دولار المُنفقة عام 2013 على الرعاية الصحية وفق التوزيع على 155 حالة مرضية، وتبين للحالات العشر الأولى منها أن مرض السكري تطلب 101 مليار دولار، وأمراض القلب 88 مليار دولار، وآلام الرقبة وأسفل الظهر 87 مليار دولار، وارتفاع ضغط الدم 84 مليارا، وإصابات السقوط 76 مليارا، والاكتئاب 71 مليارا، والعناية بالأسنان 66 مليارا، ومشكلات السمع والإبصار 59 مليارا، ومشكلات الجلد 55 مليارا، ورعاية الحمل والولادة 55 مليارا.
وبشيء من التفصيل حول مصارف الإنفاق على مرض السكري، ذكر الباحثون أن 57 في المائة كانت من نصيب أدوية معالجة السكري، و23 في المائة لتكاليف الرعاية الخارجية للمرضى في العيادات وغيرها.
ويبقى السؤال: هل ثمة طريق آخر يخفف من هذه المعاناة الاقتصادية، إضافة إلى تخفيف معاناة المرضى أنفسهم من مرض السكري وتداعياته ومضاعفاته؟
والمفارقة في الإجابة مثيرة للدهشة؛ وبسيطة في الوقت نفسه، ذلك أن الوقاية من الإصابة بمرض السكري أمر ممكن ولا يتطلب جهدًا كبيرًا أو مضاعفًا، ولا يتجاوز بضعة أمور من شأن الاهتمام بها بشكل جاد، الحيلولة دون الإصابة به، وهي أمور تتعلق بضبط وزن الجسم، وممارسة الرياضة البدنية، والحرص على تناول الأطعمة الصحية، وتقليل تناول الدهون الحيوانية، والحرص على إجراء فحوصات السكري. والواقع أن الحقائق أشمل، وهي أن الوقاية من أمراض القلب ومن إصابات حوادث السقوط ومن مشكلات الأسنان وغيرها، أمور ممكنة، وثبت بالتجارب العلمية وبالدراسات الإحصائية أنها ناجعة ومفيدة...
وفي هذا كله؛ أفلا يكون «درهم وقاية خير من قنطار علاج»؟

* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]