سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

صيحة البجعة في البيت الأبيض!

فجأة، ودون مقدمات، انتبهت إدارة باراك أوباما الذاهبة، إلى أن لفلسطين أرضًا محتلة، وأن هذه الأرض في انتظار إرادة دولية حقيقية تعيدها إلى أصحابها!.. نعم فجأة، ودون مقدمات، أفاقت الإدارة الذاهبة!.. ولكن متى؟!.. في الأسبوع الأخير، من الشهر الأخير، من العام الأخير لها في الحكم!.. ثم فجأة، ودون مقدمات كذلك، استيقظ الضمير الإنساني الأميركي، ولكنه استيقاظ نظري بكل أسف.. استيقاظ لن يغير من الأمر شيئًا.. استيقاظ لن يبدل من الحقيقة في الأرض المحتلة في شيء، لأنه جاء، حين جاء، في الوقت الضائع تمامًا!
ما معنى أن يحكم الرئيس أوباما ثماني سنوات كاملة، ثم يأتي قبل رحيله عن مكتبه بأيام معدودة على أصابع اليدين تقريبًا، ليقول على لسان وزير خارجيته جون كيري، إن حكومة نتنياهو في تل أبيب هي أشد الحكومات يمينية، وأكثرها دعمًا للاستيطان؟!.. ما معنى أن نسمع هذا من الإدارة نفسها التي عاشت ثمانية أعوام تراه، وتعيشه، ثم تسكت عنه؟!.. ما معنى أن نأتي في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2016، لنسمع فيه من المستر كيري، أن حل الدولتين هو الحل الوحيد، وأن بديله هو الاحتلال الأبدي للأرض الفلسطينية، وأن الأجندة الاستيطانية تهدد مستقبل الفلسطينيين، وكرامتهم، بمثل ما تهدد بالضبط، مستقبل إسرائيل ذاتها؟!
أين بالله، كانت هذه الأفكار منذ أن جاء أوباما مع إدارته إلى الحكم في يناير (كانون الثاني) 2008؟!.. أين كانت، ولماذا الآن على وجه التحديد؟!
نذكر جيدًا بالطبع أنه زار جامعة القاهرة في يوليو (تموز) 2009، وأنه وقتها دغدغ مشاعرنا بكلام عن حل الدولتين، ثم لم يكن هناك بعدها حس ولا خبر عن الموضوع كله، بل كان هناك العكس منه على طول الخط، وكانت إدارته تنحاز من دون تفكير، إلى الحكومة الإسرائيلية في كل موقف، وفي كل وقت!
ولا تعرف لماذا انتبه السيد أوباما فجأة، وهو يُحزّم حقائبه استعدادًا للرحيل، إلى أن في العالم منطقة اسمها منطقة الشرق الأوسط، وأنه أعطى ظهره لها مرة، وغذّى تيارات التطرف فيها، مرة أخرى، على مدى سنواته الثماني، وأنه لم يحدث أن أعارها أي اهتمام، فلما قرر أن يهتم، كان الوقت قد نفد، ولم يعد الاهتمام منه يجدي فيها شيئًا!
ماذا لو كانت إدارته قد قررت منذ ثمانية أعوام، أن تصغي إلى المعارضة المعتدلة في سوريا، بمثل ما أصغت إليها مؤخرًا؟!
كانت سوريا بالطبع ستكون غيرها الآن تمامًا!
ماذا لو صوتت هذه الإدارة الذاهبة إلى جانب الحق الفلسطيني، مبكرًا، بمثل ما فعلت في مجلس الأمن، آخر العام المنقضي، عندما امتنعت عن استخدام حق الفيتو، للمرة الأولى، ضد مشروع قرار إدانة الاستيطان، الذي تقدمت به السنغال، ونيوزيلندا، وماليزيا، وفنزويلا؟!
كان موقفًا مفاجئًا منه تمامًا، ولم يكن أحد في العالم، ولا في إسرائيل، يتوقعه، ومن شدة المفاجأة على تل أبيب فإن نتنياهو قد استدعى سفير الولايات المتحدة عنده، لا لمجرد أن يحتج أمامه، أو حتى يبدي غضبه من موقف بلاده المفاجئ على مسمع منه، وإنما، ويا للعجب، ليوبخه!
منذ متى كانت إدارة السيد أوباما لا تستخدم حق الفيتو، أوتوماتيكيًا، ضد أي مشروع قانون في المجلس يمس طرفًا لإسرائيل؟!.. ومنذ متى كانت المعارضة السورية تشغله إلى حد أنه قرر مدها بصواريخ مضادة للطائرات؟!.. ومنذ متى كان وزير خارجيته يتحدث عن إسرائيل بهذه اللهجة التي بدت منه، وبهذه اللغة التي تكلم بها، قبل أن نطوي صفحة 2016 بيومين.. لا أكثر؟!
لم يحدث هذا منه، ولا من إدارته، لوجه الله، ولا طبعًا لوجه الفلسطينيين، أو السوريين.. لم يحدث، لأنه لو كان لوجه الله، أو لوجه المعذبين في البلدين، لكان قد حدث في الأول، حتى يمكن البناء عليه بامتداد فترتين رئاسيتين، وليس في الآخر، بل في آخر الآخر كما حصل!
فلماذا حدث، إذن، وبهذه الكيفية؟!.. حدث كما بدا واضحًا، على سبيل المكايدة لإدارة ترامب القادمة، لا أكثر!.. يعني نحن أمام إدارة ذاهبة تكيد لإدارة قادمة، على حساب الملايين من المعذبين في فلسطين وفي سوريا معًا.. هذا كل ما في الموضوع!.. ولا أدل على ذلك إلا أن ترامب راح من جانبه يغرد على صفحته الإلكترونية، ويلفت نظر إسرائيل إلى أن العشرين من يناير على الأبواب.. أي موعد دخوله رسميًا إلى البيت الأبيض، وأن عليها ألا تقلق بالتالي!
في كل الأحوال، تتصرف إدارة أوباما في أيامها الأخيرة، على طريقة البجعة التي يقال إنها تطلق أعذب صيحاتها قبل أن تموت، لتكون صيحتها الأخيرة، ولتكون آخر عهدها بالدنيا!.. تتصرف إدارته كذلك، لولا أنها صيحة نظرية منها بامتياز!
ومن الممكن بالطبع، أن يكون الموضوع أكبر من مجرد مكايدة، من إدارة لإدارة أخرى، وأن يكون أعمق من مجرد صيحة بجعة في آخر حياتها.. من الممكن جدًا.. وهو أمر غالب في ظني.