خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

شلي والذكاء والذاكرة

الذكاء مفهوم حيّر الفلاسفة والعلماء والشعراء أيضًا. كان في مقدمتهم الشاعر الإنجليزي الرومانتيكي شلي. رأى أن الذكاء ينطلق من الذاكرة، بل هو الذاكرة نفسها. المؤسف أن هذا الشاعر قد مات قبل أن يجد خير تطبيق لمقولته في سيرة الكاتب والأديب الإنجليزي توماس مكولي. نشر عدة كتب تاريخية منها «تاريخ إنجلترا»، واعتمد فيها على قوة ذاكرته وعمق ذكائه.
اعتاد خلال طفولته على مصاحبة والده في شتى المواسم والمناسبات الاجتماعية. وفي عصر أحد الأيام، وأثناء إحدى هذه الزيارات، وجد الصبي توماس نفسه أمام ملحمة «المنشد الأخير» التي لم يسبق له أن رآها من قبل. أخذ الكتاب معه وانزوى بعيدًا عن الكبار الذين انشغلوا بتبادل الكلام، وانهمك في قراءته. وعندما عاد إلى البيت جلس بجانب سرير أمه وراح يعيد على مسامعها أجزاء طويلة مما حفظه من تلك القصيدة الملحمية، طبعًا بقدر ما اتسع له من صبرها أو قدرتها على الاستماع.
سمع أحد أصحابه فيما بعد أنه قال: إذا وقعت كارثة تخريبية شاملة احترقت خلالها ملحمة ملتون «الفردوس المفقود»، وأسطورة بنيان «طريق الحجيج»، وأزيلت جميع نسخهما من وجه الأرض، فإنه سيستطيع أن يجلس ويعيد كتابتهما من ذاكرته حالما تنجلي الظلمة.
حدث له في عام 1813 أن جلس في مقهى عندما كان تلميذًا في كمبريدج ينتظر العربة التي تنقل التلاميذ. وأثناء انتظاره التقط جريدة محلية ضمت قصيدتين من الشعر الشعبي من تأليف شاعرين قرويين. كانت إحدى القصيدتين تحمل عنوان «تأملات لاجئ». أما الأخرى فكانت تقليدًا فظًا وبذيئًا لأغنية ويلزية ريفية باسم «ارهيد يونوز» تروي حكاية محلية عن مربي خيل فقد أنفه عندما عضه حصان في الإسطبل. ألقى مكولي الصغير نظرة سريعة عابرة على كلتا القصيدتين، ورمى بالجريدة جانبًا، وواصل سيره إلى مدرسته. ولم يحدث له مطلقًا أن رأى هاتين القصيدتين طوال الأربعين سنة التالية من عمره. جاءت مناسبة بعد كل تلك السنين، فأنشد كلتا القصيدتين من ذاكرته دون أن يحذف شيئًا منهما.
يروي أحد أصحابه أنه عندما كان توماس مكولي في الثالثة من عمره كان يجيد القراءة ومغرمًا بها. وحيثما ذهب والداه كان يسرع للبحث عن أي كتاب يقرأه، ثم ينزوي في زاوية يطالعه ويترك الكبار مشغولين بشؤونهم. ولم يُعرف عنه مشاركته في اللعب مع أطفال البيت.
رُويَت عنه حكايات كثيرة وعن قوة ذاكرته. والسؤال الآن: أين انتهت به ذاكرته؟ لقد خلف توماس مكولي عدة مؤلفات وارتقى إلى مركز عال في حزب الأحرار، ومثله نائبًا في البرلمان البريطاني. لم يرتقِ إلى منصب وزاري.
الواقع أن الأدب العربي يروي أيضًا كثيرًا من أمثال هذه الذاكرة العجيبة فيمن أصبحوا فيما بعد من عيون الشعر والأدب العربي. أبو العلاء المعري واحد منهم. حكي عنه أنه حفظ كلامًا بالفارسية التي لم يكن ملمًا بها، سمعه من مستطرق طارق، ونقل كامل الكلام لصاحب الدار الغائب عن داره عند عودته.