عامر الكبيسي
كاتب عراقي
TT

معلومات مهمة من داخل الموصل

ثمة مصادر بسيطة لمعرفة أخبار أهل الموصل حاليًا؛ شبكات ضعيفة جدًا للهاتف الجوال، تعمل عادة بعد منتصف الليل، ويقتصر الاتصال فيها على الأقارب؛ أبناء في الخارج، يسمعون من الأب والأم ما يحدث في الداخل، يتحدثون عما يجري في المدينة المحاصرة، ولكن الحديث يكون بحذر شديد، ويتأكدون من أن آذان «داعش» لا تسمعهم من خلف الجدران.
تأتي معلومات أخرى ذات طابع عسكري من خلال الأقمار الصناعية أحيانًا، مثل رصف «داعش» لمطار الموصل الذي يقع في الجانب الأيمن، بجدران خراسانية على طول المدرج، مئات من الجدران رصفت بشكل طولي، بعضها في إثر بعض، حتى لا تنزل في المدرج أي طائرة، عسكرية أو مدنية.
صورة أخرى لجدران خراسانية بين الأحياء، تظهر من الأعلى وقد وضعت عند المداخل بشكل طولي، ستة جدران عالية تقابلها ستة جدران أخرى في الجهة الأخرى من الشارع، لكن المعلومة غير مكتملة للناظر لصورة الأقمار من الأعلى فقط، إذ يقول أهل الموصل إن هذه الجدران (وهو ما لا يظهر بالأقمار)، وضعت على قواعد متحركة، يمكن إسقاطها لاحقًا عن بعد، بمعنى أنها سوف تستخدم لخنق طرق مرور العائلات، في اللحظة التي يريدون الخروج فيها، وذلك بإسقاطها عن بعد، لتغلق الطرق تمامًا، إذ ستسقط واحدة على الأخرى، على جهتي الطريق.
من خلال الاتصالات الهاتفية، التي تصل من سكان الموصل الحاليين، إلى أهلهم في الخارج، تتسرب معلومات أخرى؛ أن «داعش» في هذه الأيام، قطع الأحياء السكنية بعضها عن بعض، ورصف مداخلها، أمام كل مدخل حواجز خراسانية، وبدأ يدقق في هويات المارة، ويسأل عنهم، ومن أين وصلوا وأين يذهبون.
قام «داعش» كذلك بحملة سريعة لقتل كل وسائل الاتصال، المرسلة والمستقبلة، فـ«الستالايت» ممنوع، ليس لأسباب أمنية (كما يدعي)، بل لأن فتوى ما صدرت بتحريمه، وبدأ العمل السريع عليها قبل موعد المعركة تمامًا.
يلاحظ السكان أمرًا جديدًا: بعض عائلات التنظيم بدأت بالفعل بإخلاء البيوت التي احتلتها سابقًا، لا سيما في الجانب الأيسر من المدينة، وبشكل أدق في أحياء السكر والزهور والمثنى والبريد وحي التحرير.
أغلق «داعش» كذلك ما يسميه بـ«المضافات»، وهي مساحات يستعملها التنظيم لاستراحة جنوده وموظفيه داخل الأحياء السكنية، ويبدو أن جميع مواقع هذه المضافات، أصبحت لدى قوات التحالف، وقد تُستهدف في أي لحظة.
يغير التنظيم حاليًا مواقع مقراته، ويدير اجتماعاته بشكل متحرك، ويخشى من تسريب معلومات داخلية، لأي مكان اجتمع فيه، فالاختراق وصل إلى حد لم يصل إليه في أي وقت مضى.
يذكر الأهالي هناك أن معظم المحال التجارية، أغلقت أبوابها في اليوم التالي لإعلان حيدر العبادي العمليات، وقد تنبه ديوان الحسبة الذي يديره «داعش» لذلك، وهو ديوان يراقب الناس والأسواق، فسّر هذا الديوان إغلاق المحال التجارية على أنه نوع من أنواع المقاومة الصامتة، لكن الأمر من غير إعلان من أحد، فأصدر ديوان الحسبة بسرعة، أوامره النافذة، بوجوب فتح المحلات، وبخلافه، فإن ما فيها يصادر، ويحاسب من لم يفتح محله التجاري.
يقوم «داعش» بأشياء كثيرة كان قد تفاخر بإنهائها سابقًا، كالاعتقالات للشباب خاصة، والتدقيق في الهويات الشخصية للأفراد، ثم قتل وتصفية عدد من الشباب خلال الأيام الماضية بحجج الخيانة أو بحجة عملهم في مفوضية الانتخابات السابقة، أو بحجة كتابتهم للحرف «ميم» على بعض الجدران، وهو رمز مختصر لعبارة «مقاومة» كحركة تريد مقاومة «داعش» في المدينة.
بمعنى آخر فإن «داعش» يقوم هذه الأيام بأفعال قريبة من تلك الأفعال التي كانت قوات تتبع لنوري المالكي تقوم بها قبل دخول «داعش» للموصل، فقد كنتُ أمشي في شوارع الموصل في تلك الأيام، وكانت قوات تتبع لإمرة المالكي تحكم الموصل تمامًا، في الحقيقة لم يكن أهل الموصل يحبونها إطلاقًا، كانت تلك القوات تعتقلهم وتنتهك كرامتهم، كل شيء كان مُقطعًا، طريق سيارة ينتهي بخمس دقائق، يستغرق ساعة بسبب القطوعات والالتفافات الإجبارية والتفتيش، ثم لا بد من حمل الهويات الشخصية، وإشهارها أمام رجال الأمن، حتى قيادة السيارة، كانت لا تشبه أي مكان في العالم، هناك تعليمات متتابعة، هنا تغلق الأضواء، هناك تفتحها على أعلى ما يكون، من تلك الجهة تأخذ جانبًا يمينًا، عندما تمر سيارة ابتعد عنها مسافة 50 مترًا، كنت أمزح مع بعض الأصدقاء وأقول: أنتم أمهر قائدي السيارات في العالم.
أخبار أخرى، ينقلها لنا «داعش» عن نفسه هذه المرة، ليست من ذلك النوع المعني بالتفجيرات والهجمات، فهذه كثيرة ومشهورة، لكن صورة أخرى يحاول إظهارها من داخل المدينة، من داخل الموصل نفسها، حيث يمنع تمامًا على أي صحافي أو إعلامي أو مصور أو حتى ناشط، أن يخرج صورة واحدة من هناك.
يحاول «داعش» إخراج وجوه مبتسمة ملتحية أمام الكاميرات! تقول: كل شيء على ما يرام، الوجوه مبتسمة، والهمة عالية، والطعام موجود... وهكذا.
ولكن تُمكِن قراءة العيون في تلك الوجوه بطريقة مختلفة تمامًا! فأصحابها لا يمكن أن يقولوا كلمة واحدة غير الكلمات التي يجب أن تقول إن كل شيء ممتاز. وما هو بممتاز أبدًا، بل هو في أسوأ ما يكون على الموصل وأهلها، منذ قرون.
داخل الموصل، يفكر كل مواطن هناك بالمشهد الأخير من القصة كلها، مشهد تأتي فيه القوات الأمنية، التي غادرت الموصل بيوم واحد، وتعود إليها اليوم، لكنها تلبس لباس المنتصر، بعد أن لبست لباس الهروب والهزيمة، ولا يعرف أهل الموصل عندما تدخل تلك القوات، هل سيكون الأهالي بانتظارها أو باستقبالها، أم أنهم سيقررون مغادرة المدينة، بل هل ستكون قوات من الجيش العراقي، أم من البيشمركة، أم من التحالف، وهذه كلها يمكن التعامل معها بطريقة أو بأخرى، لكن: هل سيكون من بينها قوات للحشد الشعبي؟! هذا يعني عند الأهالي خطرًا داهمًا ودمارًا للمدينة، كما حصل سابقًا مع مدن أخرى، دخلها الحشد، وفجر ودمر وعذب وانتهك.
أما من خارج الموصل، فتصل الأصوات لأهل الداخل بطريقة مختلفة، فالأصوات المحبة لأهل الموصل، تعيد دائمًا، في كل فرصة قولها لأهل المدينة: لا تتركوا المدينة أبدًا، فخروجكم منها قد لا يكون محمود العواقب، فمدينة أورثها الأجداد، سيعني الخروج منها، أن الأحفاد الأصليين، لن يتسلموا من المدينة أي شيء، ستترك للغريب، والأصيل يبدأ في درب النزوح والهجرة، الذي لا يمكن فهم مستقبله، على الناس، وعلى الأرض معًا.
* كاتب عراقي