سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

سينما وخرز

أحب الأفارقة أنواع الخرز الذي تشبه ألوانه ألوان الغابة والشفق. وبادلهم اللبنانيون الخرز بالأحجار الكريمة، أو بالعمالة الرخيصة. ولم يكونوا أفضل من استغل حب الألوان وعذرية الغابات، فقد سبقهم إليه كولومبوس في هايتي، وهو في الطريق إلى بلاد الهنود الحمر و«الجاستا».
ولا كان اللبنانيون أول التجار وأذكى الشطار، فقد سبقهم اليونانيون يجولون في أعماق الأدغال، ويبيعون كل ما لديهم. وأحد أذكى هؤلاء كان يونانيًا في الكونغو اكتشف أن السينما المخترعة حديثًا بهرت الأفارقة، كما بهرت سواهم. وأخذ يشتري أفلامًا قديمة من أيام السينما الصامتة، ويعرضها في الساحات على شاشة معلقة فوق شاحنته.
ثم أدرك شيئًا آخر، وهو أن جمهوره يفضل الأفلام التي يظهر فيها رجل أسود أو امرأة سوداء. ففي تلك الأيام العنصرية، لم يكن الأسود يظهر إلا في دور خادم أو فلاح، بعكس اليوم، حيث من ضرورات نجاح الفيلم مشاركة ممثل أسود، أو بطولته.
كان جمهور الكونغو البسيط يعتقد أن ابن بشرته هو البطل. وكلما غاب عن المشهد، ينتظر ظهوره من جديد. وإذا لم يظهر سوى مرة واحدة غضب الناس، وأصيبوا بخيبة. لذلك، أصبح اليوناني لا يستورد سوى الأفلام الملونة بالأسود والأبيض حقًا.
لم يهتم التاجر اليوناني كثيرًا لظهور الأفلام الناطقة بأسعار رخيصة. فالجمهور لم يكن يفهم في أي حال سوى لغة الكياكا المحلية. ولم يفرّق بين أهمية الأدوار ما دام الممثل يرتدي بزة «رسمية»، كبواب عمارة أو مفتش قطار. وكان كلما غاب وعاد، صفق الحضور لانتصاره.
الذي لم يدركه منتجو هوليوود ويونانيو الغابات، أن السينما كانت أحد العناصر التي أيقظت الأفريقي على عنصرية الرجل الأبيض، واستغلاله أهل الأرض. وإلى حد بعيد، عاش أهل القرى في لبنان الحالة نفسها، فقد كانوا يقبلون على حضور أي فيلم يعرض على ضوء النجوم في ساحات القرى. وغالبًا ما كانت تلك أفلامًا دعائية عن الزراعة في أميركا، أو أفلامًا قديمة عن الحرب العالمية الأولى. ولا يستطيع أحد أن يقدر التأثير الذي تركته هوليوود في النفوس. فعندما كنا يافعين، كنا مُجمعين على أن الهندي الأحمر قاتل متوحش، وأن البطل الحقيقي هو بيرت لانكستر أو جون واين. ثم كبرنا والحمد لله.