د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

شروخ سياسية أميركية؟!

إذا كان هناك قول ذائع بين المثقفين الأميركيين ومعهم ساسة وإعلاميون وقادة في مجالات كثيرة، فهو أن الانتخابات الرئاسية الحالية لم يوجد لها مثيل من قبل منذ بدأ انتخاب الرئيس الأميركي جورج واشنطن. في العموم لم تكن الانتخابات دومًا نظيفة، لا في القول ولا في الفعل، ولكنها كانت في كل الأحوال تحتوي على تقاليد في اللفظ والمظهر واحترام المؤسسة الرئاسية. وربما سوف يحسب للرئيس ريتشارد نيكسون أنه رغم إنجازاته الكثيرة خاصة في إنهاء الحرب الفيتنامية وفتح الأبواب الأميركية مع موسكو وبكين، فإنه لوث هيبة المنصب ومكانته بما عرف بفضيحة ووترغيت التي أدت إلى استقالته. الرئيس بيل كلينتون أيضًا كانت له إنجازات كثيرة خاصة في المجال الاقتصادي حينما حقق فيه فائضًا للولايات المتحدة قارب أربعة تريليونات دولار، ولكن فضائحه الجنسية مع الكثير من النساء كان آخرها المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي كادت تخرجه من المنصب حينما صوت مجلس النواب على خروجه، ولم يحمه إلا أن مجلس الشيوخ لم يحقق أغلبية الثلثين اللازمة لإقالته. ولكن الكارثة، والفضيحة ظلت تطارده طوال حياته، ومؤخرًا فإنها عادت لمطاردته وزوجته معًا.
الآن دخلت الانتخابات الرئاسية الأميركية طورًا جديدًا غير مسبوق من الفضائح، ومعها جرت عمليات نشر الغسيل القذر عندما أذاعت صحيفة «واشنطن بوست» تسجيلاً صوتيًا، وشريط فيديو للمرشح الجمهوري يتحدث فيه عن النساء وعلاقته بهن بطريقة وقحة وسوقية. حدث ذلك قبل يومين من المناظرة الثانية بينه وبين هيلاري كلينتون، ولكن الحدث بات ذائعًا بشدة، ومعه فإن كل القفازات جرى خلعها في المناظرة حينما أحضر ترامب معه عشيقات سابقات إلى ساحة المناظرة، حتى ولو قام بالاعتذار الشكلي للنظارة والمصوتين الأميركيين. وفي كل الأحوال فإن الواقعة فتحت التاريخ الجنسي لترامب الذي تزوج ثلاث مرات، وكان له تاريخ مع عدة نساء. ولم يكن لديه من دفاع سوى فتح ملفات بيل كلينتون باعتباره زوجًا لمنافسته، فاهتزت بشدة هيبة البيت الأبيض حتى قبل أن يدخله أي من المتنافسين.
ولم تكن الخسارة السياسية الكبيرة للنظام الديمقراطي الأميركي كله ناجمة عن حالة المرشحين الرئيسيين الديمقراطية والجمهوري، وإنما أيضًا عما سببته من خسائر لأعمدة أخرى للنظام السياسي. فالبيت الأبيض خسر بالتأكيد عندما بات الشك وعدم الثقة سمة غالبة في أي من يكون فائزًا في الانتخابات، حيث هناك غالبية كبيرة من الأميركيين لا تثق في النزاهة الأخلاقية للمرشحين. ولكن الحزب الجمهوري خسر أيضًا، فقد بات واضحًا أن الحزب بات منجرفًا في اتجاهات شعبوية وديماغوجية تجاوزت مؤسسات الحزب، ومجالس حكمائه، إلى شخصية منحرفة فكريًا وعاطفيًا وغير متوازنة نفسيًا. وهكذا انقسم الحزب الذي يمثل الطرف الثاني للحياة السياسية الأميركية، وكانت بداية الانقسام أثناء فترة الانتخابات التمهيدية بين ترامب من ناحية، وباقي المرشحين (17 مرشحًا) من ناحية أخرى، حينما تعمد إهانة الواحد منهم تلو الآخر. والعجيب أن هذه الإهانات كانت في كل مرة تزيد من شعبيته. والنتيجة كانت أن كثيرًا من جرحى ترامب السياسيين إما لم يحضروا مؤتمر الحزب الجمهوري، أو أنهم حضروا القليل وانسحبوا بعد قليل، خاصة من كان رئيسًا للدولة من قبل، أو كان مرشحًا للرئاسة في وقت من الأوقات. وفي الواقع فإن حزمة كبيرة من أقطاب الحزب الجمهوري بدأت حربها الخاصة مع ترامب كان آخرها ما أعلنه بول رايان (رئيس مجلس النواب والشخصية الجمهورية الأولى المنتخبة حاليًا) بعد الحادث أنه لن يتصدر مرة أخرى للدفاع عن ترامب، وما كان من الأخير إلا أن رد الصاع صاعين له عندما طالبه بأن يهتم بوظيفته في إصدار القوانين التي يحتاجها الشعب الأميركي بدلاً من التصدي لمرشح الحزب في الانتخابات.
كان لترامب طريقة فريدة، وصفيقة أيضًا، في إبعاد منافسيه باستخدامه لأساليب التواصل الاجتماعي خاصة «تويتر» في الهجوم بكلمات يعرفها الشارع الأميركي، والطبقة العاملة الأميركية التي مثلت القاعدة الرئيسية لمؤيديه. وبشكل ما فإنه فرض أسلوبًا إرهابيًا جعل اللجنة القومية للحزب الجمهوري تحاول الهروب من تأييده إلى قصر دورها على الدفاع عن المرشحين الجمهوريين لمجلسي النواب والشيوخ. ولكن اللجنة لم تتحمل الهجوم عليها فتراجعت عن موقفها وعادت مرة أخرى للدعوة لتأييده باعتباره لا يزال المرشح الجمهوري. ومع ذلك فإن ترامب لم يرتدع من هذه الشروخ داخل حزبه، وعلى العكس، واعتقادًا منه أنه يمثل حركة سياسية تعبر عن حقيقة الشعب الأميركي، فإنه نجح في إدارة المناظرة السياسية بتفجير قنبلة سياسية لم تحدث من قبل في النظام السياسي الأميركي. حدث ذلك عندما أعلن عن نيته حال وصوله إلى البيت الأبيض في الطلب من المدعي العام الأميركي أن يعين محققًا خاصًا في شؤون منافسته التي لا بد أنها سوف تدخل السجن بعدها. كان ذلك استعارة لم تعرفها أميركا من تراث الدول الديكتاتورية التي يقوم فيها الرئيس الأميركي بسجن منافسيه حتى قبل أن يفوز في الانتخابات الرئاسية. وفي سابقة لم تحدث من قبل فإنه اعتمد على وثائق «ويكيليكس» (وهذه مدانة داخل الولايات المتحدة باعتبارها تفريطا في الأسرار الخاصة بالدولة الأميركية) والتي جرى أيضًا تحريفها من قبل الموقع الإلكتروني الروسي «سبوتنيك» لكي يثبت ذنوب هيلاري كلينتون في أحداث بنغازي التي قتل فيها سفير أميركي ومعه ثلاثة آخرون من الدبلوماسيين الأميركيين إبان وجود المرشحة الديمقراطية في منصب وزير الخارجية الأميركي.
ولا شك أن وجود دونالد ترامب في السباق الرئاسي الأميركي قد أحدث شروخًا في النظام السياسي الأميركي، وربما في الحياة السياسية الأميركية لن يكون سهلا إصلاحها في المستقبل؛ إلا أن هيلاري كلينتون هي أيضًا لا يمكن إعفاؤها من المسؤولية ومعها أقطاب الحزب الديمقراطي. فبشكل ما فإن المرشحة الديمقراطية تصرفت في ترشيحها كما لو كان ذلك حقًا إلهيًا لها في الوصول إلى البيت الأبيض. صحيح أن لديها الكثير من المقومات والخبرات التي تؤهلها للمنصب، ولكن أيضًا يوجد على عاتقها الكثير من الذنوب والخطايا، ليس فقط ما قام بها زوجها، وإنما أيضًا في ممارسات قامت بها سواء أثناء وجودها في مجلس الشيوخ أو في وزارة الخارجية، فضلاً عن شكوك كثيرة في قدراتها الصحية على تولي المسؤولية الثقيلة. باختصار شديد لم تكن هيلاري لديها من الشخصية التي توفر على الولايات المتحدة شروخًا كثيرة نجمت في الأساس عن تاريخ كما فيه من ضوء يوجد أيضًا الظلام والكتمان.
لقد اقتربت الانتخابات الرئاسية الأميركية من نهايتها، وسوف يقول المواطن الأميركي كلمته، والمرجح أن تفوز هيلاري كلينتون بالرئاسة الأميركية، ولكن ذلك لن يكون آخر القول بالنسبة لدونالد ترامب الذي بدأ يتحدث عن نفسه ليس باعتباره مرشحًا وإنما كحركة سياسية تريد تغيير أميركا. وإذا لم يكن التغيير قد حدث بالفعل في النظام السياسي بعد أن غابت تقاليده، فربما ننتظر حتى تصبح الشروخ جروحًا عميقة.