خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من ظرافات السياسة العربية.. الراديو في الخدمة التشهيرية

هذه حكاية سمعتها من الزميل نجدت فتحي صفوت، رحمه الله، صاحب حكايات «هذا اليوم في التاريخ»، السلسلة التي تمتعنا بها طويلاً. وهي حكاية مر بها العراق في الثلاثينات، عندما قام العساكر بقيادة بكر صدقي بأول انقلاب عرفه العالم العربي وذلك في سنة 1936. كانت النتيجة أن هرب معظم ساسة البلاد ولحقوا برئيسهم ياسين الهاشمي في منفاه بسوريا. غير أن جميل المدفعي بقي في بغداد وانطلق ينتقد ويردد أن على السياسي الوطني حقًا ألا يهرب من بلده بل يصمد ويجاهد في تصحيح الأوضاع. وأن تدخل العساكر في السياسة وقيامهم بانقلابات عسكرية ضد النظام المدني القائم ليس صحيحًا. وراح يردد لأصحابه أن من اللازم معاقبة هؤلاء الضباط حالما تستقر البلاد وتعود الشرعية للحكم.
وحدث أن ضباطًا آخرين قاموا بعد قليل من الأيام باغتيال الضباط المسؤولين عن الانقلاب وعادت الشرعية والحكم المدني للعراق. ترأس جميل المدفعي الحكومة المدنية الجديدة. ولكنه باشر بإعلان أنه ليس من المعقول والحكمة أن نعاقب الضباط الذين قاموا بالانقلاب. كان بعبارة أخرى قد قلب ما سبق وأكده. ما إن تسلم رئاسة الوزارة حتى رفع شعار «إسدال الستار عما سلف». وراح يردده في سائر المناسبات.
ولكن أي أحد لم تغمض عيناه عن هذا التبدل الكامل في منهج الرئيس الجديد. كان فائق السامرائي، المعروف بسياسته القومية، يتولى مديرية الإذاعة العراقية. أوعز للمذيعين والمخرجين إذاعة الأغنية المعروفة «عيني جميل إش بدّلك؟». تحمس كل من كان يعمل في الإذاعة بتكرار بث هذه الطقطوقة إلى حد أثار أعصاب رئيس الوزراء.
حيثما كان وكلما فتح الراديو سمع هذه الكلمات. بل شاعت على ألسنة العراقيين في سخريتها من الحكومة الجديدة. لم يجد غير أن يفاتح وزير الداخلية، السيد مصطفى العمري، المسؤول عن مديرية الإذاعة. لفت نظره لهذا الموضوع لوضع حد له بل طلب معاقبة الموظفين الإذاعيين المسؤولين عن التمادي في ذلك.
وكان مثالاً أوليًا في استخدام الإذاعة والتلفزيون سلاحًا في المناوشات السياسية التي بلغت أوجها في عهد عبد الناصر وعبد الكريم قاسم في الخمسينات. على النهج والأسلوب نفسيهما راحت إذاعة بغداد تكرر وتكرر إذاعة أغنية رجاء عبده «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي وعيوني لما بكوا دابت مناديلي». يتساءل القارئ: لم هذه الأغنية خاصة؟ لأنهم في بغداد سمعوا أن والد جمال عبد الناصر كان ساعي بريد. فأرادوا السخرية منه بهذا الأسلوب الفج والعقيم والمسيء للعمال والكسبة.
الحقيقة أن الدول الغربية أيضًا لم تقصر في هذا الأسلوب وطالما كرر الإنجليز في أيام الحرب العالمية الثانية بالسخرية من «الشاويش هتلر». ومع ذلك فإنني أعتقد أن الخوض في مثل هذا السباب والتشهير الفج عبر القنوات الإعلامية أسلوب رخيص لا يليق بالمسؤولين والعاملين فيها.