د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

تأزم الدولة الوطنيّة

إن ما تعرفه الدول العربيّة منذ سنوات من هزات متعددة الأبعاد والحقول، انتهى بنا إلى ملاحظة حالة التأزم المعقدة التي شملت هوية أنموذج الدولة الوطنيّة وإخفاقها في تحقيق تراكم نوعي يُقوي من أدائها في الأزمات.
فكما هو معلوم تبنت الدول العربيّة إبان حصول كل واحدة على الاستقلال خيار بناء مشروع دولة وطنية، بمعنى انشغال كل دولة بمعركة التأسيس والتنمية، وذلك وفق رؤى مختلفة وإرادات متفاوتة. وهذا الانخراط في أنموذج الدولة الوطنية بالمعنى الأوروبي للكلمة، استوجب مفاهيم جديدة وعلاقات بالتاريخ والجغرافيا مختلفة، وهو ما يعبر عنه بوضوح ما يسمى مثلاً خيارات «التونسة» و«الجزأرة» وما إليها... أي أن كل دولة تنشغل بحدودها الجغرافية، وتعمل على إعادة ترتيب مقومات الهوية المجتمعية بشكل تصبح فيه قريبة من تصور الهوية في أنموذج الدولة الوطنية، حيث الاعتبار الأول يصبح للتاريخ المشترك والعادات والتقاليد أكثر من الاعتبارات التي توليها الهوية الدينية المقام الأولي.
المشكلة أنه منذ بدء هبوب رياح ما يسمى الثورات العربية وتكشير الإرهاب عن أنيابه، فإن بعض الدول الوطنيّة العربيّة لم تستطع أن تظهر صمودًا مطمئنًا، بل إن الاحتجاجات الاجتماعية وحدث الثورة في حدّ ذاته، إنّما يمثل إخفاقًا في إشباع التوقعات، ومن ثم تهديدًا صريحًا وقويًا لأسس الدولة الوطنية وتشكيكًا في منجزها.
لذلك، فإننا اليوم أمام تأزم حقيقي للدولة الوطنية، وهو مؤشر خطر حقيقي، حيث يجعل من السيناريوهات مفتوحة على مصراعيها على الأسوأ.
طبعًا التأزم مفهوم ومبرر؛ لأن غالبية النخب السياسية الأولى، التي حكمت أغلب بلداننا العربية وراهنت على أنموذج الدولة الوطنية لم تأخذ من هذا الأنموذج إلا الشكل، وتناست أو أنّها لم تعِ أن أنموذج الدولة الوطنية ثقافة وقيم، ولا نجاح للدولة الوطنية دون العمل على تجذير تلك القيم. بمعنى آخر تم التعاطي مع الشق السياسي الشكلاني الظاهري لمشروع الدولة الوطنية فقط ممّا جعل من التأسيس أعرجَ ومعوقًا. وهو ما يفسر سهولة اختراق التنظيمات المتطرفة الإرهابية، ونجاحها في إحراز قاعدة شعبية هائلة، وتحقيق ضربات نوعيّة للدول الوطنية العربية. فظهور هذه التنظيمات هو للإطاحة بهذا الأنموذج، واستثمار الثغرات القيمية الثقافية التي انبنى عليها منذ الخمسينات. وهنا تتنزل تسمية التنظيم الإرهابي: تنظيم الدولة الإسلامية المزعومة، الذي هو مشروع ضد المشروع القائم: الدولة الوطنية. فالدولة في مرجعيات التنظيمات المتطرفة ذات أساس ديني لا غير. أي أنها تحمل مفهومًا للهوية لا يتضمن إلا المقوم الديني، ومن ثم فالهوية الاجتماعية دينية أولاً وأساسًا وأخيرًا مع استبعاد المقومات الأخرى التي تتصل باللغة والعادات والتقاليد والتاريخ المشترك.
لذلك، فإن حالة التأزم الراهنة والتصدع وتفاقم المشكلات، إنّما تقودنا إلى تأصيل هذا التأزم وقراءته قراءة ترجعه إلى بدايات تأسيس الدول الوطنية. فنحن اليوم نعيش على وقع أخطاء التأسيس ونقائصه.
وكمثال على ذلك نتوقف قليلاً عند المثال التونسي، الذي يعد من أكثر تجارب الدول الوطنية هضمًا لمفهوم الدولة الوطنية، واستيعابًا لاستحقاقاتها؛ حيث تم تبني مشروع الدولة الوطنية الحديثة، وعملت النخبة السياسية الأولى الحاكمة لتونس المستقلة بقيادة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة على تدعيم خيار التونسة، والانشغال بما كان يسميه معركة الخروج من التخلف. ولقد اهتم بالتنمية الاجتماعية من خلال التركيز على ملفي التعليم والصحة وأهمل التنمية الثقافية والسياسية، فكانت النتيجة ما نسمعه من أرقام مذهلة وصادمة عن عدد الشباب التّونسي المنخرط في التنظيمات المتطرفة الإرهابية، بل إن تونس التي تتباهى بمجلة (قوانين) الأحوال الشخصية وبنجاحها في مجال المرأة، رأينا كيف أن التونسيات حاضرات بقوة العدد والوظائف داخل شبكات الإرهاب والموت.
باختصار شديد: الإخفاق واضح وأمر واقعي، ومن المهم الاعتراف به ومواجهته بشجاعة سياسية وفكرية، حتى نستطيع معالجة دولنا الوطنية، وإعادة بنائها وفق الرؤية الثقافية التي تشترطها. ولعل الإخفاق في تجذير مفهوم المواطنة وعدم استشعار شعوبنا للمواطنة، هو الذي أضعف إلى حدّ كبير وعميق دولنا. بل إن بعض الدول العربية، التي جمعت بين خياري الدولة الوطنية وأيضًا الدولة الإقليمية، قد باتت اليوم تعرف تأزمًا مضاعفًا ومزدوجًا. ولعل السعودية هي اليوم الدولة العربية الإقليمية الوحيدة التي لا تزال محافظة على دورها الإقليمي.
من هذا المنطلق وغيره، يبدو لنا أنّه لا خيار غير الوعي بتأزم مشروع الدولة الوطنية، ودخوله طور الانهيار، وأنّه لا بدّ من الاشتغال على البعد الثقافي السياسيّ، إذ إن النماذج السياسيّة، هي نتاج تصورات فكريّة فلسفيّة بالأساس.