انتقلت جولات المعركة السورية إلى قاعة مجلس الأمن نهار السبت الماضي، من خلال تقديم مشروعين؛ الأول فرنسي - إسباني بدعم من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، والثاني روسي. كلنا، ومعنا أصحاب المشروعين وداعموهما، نعلم أن محصلة الجلسة والتصويت ستكون صفرًا مربعًا، لأن كل مشروع سيسقط الآخر، ولا يوجد قيمة فعلية لأي منهما، إلا باعتبار القيمة المعنوية التي رشحت لنا بمزيد من الاصطفاف والاستقطاب ورسم المسافات بين الدول في مواقفها من الأزمة السورية.
أبرز هذه المواقف كان الموقف المصري، العضو غير الدائم في مجلس الأمن، الذي صوّت للمشروعين المتلاحقين؛ الفرنسي والروسي، مما خلق جوًا من التوتر والحساسية مع الدول العربية المعارضة للمشروع الروسي خصوصا المملكة العربية السعودية، ظهر في تصريح المندوب السعودي لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي بوصفه التصويت لصالح المشروع الروسي بـ«المؤلم».
الموقف المصري ورد الفعل السعودي ربما كان سيعبر بهدوء لو كانت البيئة السياسية في المنطقة العربية والخليج خصوصا، نظيفة من شوائب الحسابات الحزبية، لكن بكل أسف قوبل التصويت المصري الذي لا وزن له في واقع الحال بطوفان من خطابات التحريض والتأليب، وقوبل كذلك تصريح المندوب السعودي بتضخيم تجاوز السياق، وصل إلى حد الدعوة إلى القطيعة.
رغم وجودنا داخل هذه البؤرة المشحونة، علينا أن نعيد النظر والتقييم وفق ما تمليه المصلحة، بعيدًا عن النفَس العاطفي الذي ساد الشارع، واستغل من جماعات وأفراد وجدت فيه فرصة لإيقاع الفرقة بين الدولتين.
المندوب السعودي ذكر في معرض تصريح لاحق أن الموقف المصري من المشروع الروسي كان متوقعًا، ولا نعرف هل هذا يعني أنه تمت مناقشات قبيل الجلسة مع الطرف المصري حول التصويت أم القصد أن مصر لها موقف مغاير عن المملكة منذ بداية الأزمة السورية. سأفترض المعنى الثاني، والذي هو معلوم بأن الحكومة المصرية لديها تحفظات حول الشأن السوري حتى قبل التدخل الروسي قبل نحو عام، وقبل دخول التنظيمات الإرهابية قبل أربعة أعوام.
الأولوية الكبرى للأمن القومي المصري من وجهة نظر الحكومة المصرية هي التصدي لأي فرصة ظهور لـ«الإخوان المسلمين» في مصر أو في أي دولة ذات تأثير على الداخل المصري، والجماعة في سوريا تعتبر من أهم أطياف معارضة نظام بشار الأسد في الداخل، وهذه نقطة خصومة كبيرة أيضًا بين مصر وتركيا التي تتعاطف مع التنظيم. هذا موقف مبدئي كان في الفترة الأولى للأزمة السورية، لكنه ترسخ وتجذر مع الوقت بسبب مستجدات الحالة، كوجود جماعات سنية متطرفة معارضة لنظام الأسد ترى القاهرة أنها محسوبة على التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، وهي تحديدًا «جبهة النصرة» التي أعلنت انفصالها عن تنظيم «القاعدة» وأطلقت على نفسها مسمى «فتح الشام».
المشروع الروسي الذي أيدته مصر مساء السبت يتوافق مع المشروع الفرنسي في تيسير الإمدادات الإنسانية للمناطق المحاصرة ووقف العمليات القتالية، لكن الاختلاف تضمينه المطالبة بإخراج «فتح الشام» من حلب. أضف إلى ذلك، أن الحكومة المصرية لا تتمتع بعلاقات مستقرة مع واشنطن والغرب بشكل عام منذ الموقف الأميركي المتردد من ثورة 30 يونيو (حزيران) التي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين وجاء على أثرها السيسي إلى الحكم، وبالتالي فإن توطيد العلاقة مع الروس خيار استراتيجي بالنسبة للقاهرة، حتى وإن كان الثمن غير مكلف كالمجاملة في تصويت رمزي لا وزن له كما حصل في مجلس الأمن.
الموضوع السوري نقطة خلاف سعودي - مصري ولا شك، لكنه خلاف غير معطل، ولا مؤخر لأي عمل تقوم به السعودية وحلفاؤها ضد النظام السوري، بدليل تصويت القاهرة لصالح المشروع الفرنسي المطالب بحظر الطيران فوق مدينة حلب ووقف فوري للضربات الجوية التي ينفذها الروس. كما أن القاهرة ليست طرفًا داعمًا للجبهة الروسية باستثناء المواقف السياسية المتباعدة حول القضية.
والتصويت الذي حصل وأثار حفيظة الطرف السعودي في حقيقته لم ينفع الروس، لكنه مس خط التوافق الذي دأبت السعودية ومصر على المضي فيه أمام كثير من التحديات.
لا تفترض العلاقات الدولية العميقة تطابق وجهات النظر في كل القضايا، لكنها تفترض أمرًا حيويًا واحدًا وهو الإقرار بأهمية التواصل والمفاهمات لحفظ المصالح المشتركة، والأمثلة في ذلك لا تعد ولا تحصى. السعودية مثلاً رغم تحفظها على الممارسات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين ضدها، لم تتخل عن مصر حينما ترأسها محمد مرسي، عضو جماعة الإخوان، بل استمرت في دعمها الاقتصادي في وقت كانت فيه الدولة المصرية على وشك الانهيار الاقتصادي وإعلان الإفلاس. ومن ناحية مقابلة، انضمت مصر للتحالف العربي للدفاع عن الشرعية اليمنية تجاوبًا مع المطلب السعودي، والقطع البحرية المصرية موجودة اليوم في مضيق باب المندب، واعتبارها أمن المملكة خطأ أحمر بعد تعرض السفارة والقنصلية السعودية في إيران للاعتداء الإجرامي أول العام الحالي، إضافة لتفاهمات اقتصادية كبرى في منطقة البحر الأحمر وسيناء جاءت بعد زيارة تاريخية للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز إلى مصر في أبريل (نيسان) الماضي.
العلاقة السعودية - المصرية ملزمة أن تكون صلبة، مضادة للمواقف الإعلامية المحرضة، والأصوات الحزبية الانتهازية، وتقفز فوق القضايا الخلافية. هذا ليس خيارًا، إنه أمر حتمي، في ظل تحديات وجودية كبرى تمس الدولتين أو تعود بالنتيجة سلبًا عليهما.
[email protected]
7:37 دقيقه
TT
الصوت المصري وأبواق التحريض
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة