إميل أمين
كاتب مصري
TT

عن التلاعبات الإيرانية بالقضية الفلسطينية

هل حقا تدعم إيران القضية الفلسطينية، أم أنها تتلاعب بالفصائل الفلسطينية ذاتها وبالقضية عينها، تلاعبا يفهم على أنه عزف على الوسائل وأصواتها الزاعقة وراياتها الفاقعة، وليس على الغايات ومداواة الجروح والتئام الكسور القدرية ككسر القضية الفلسطينية، قضية العرب والمسلمين الرئيسية؟
التساؤل السابق مرده ما كشفت عنه صحيفة «جيروزاليم بوست» في الأيام القليلة الماضية، وتحديدا بعد وفاة رئيس إسرائيل الأسبق شمعون بيريس بساعتين، من أن الرجل منع نتنياهو من قصف مفاعلات إيران النووية مرتين في الأعوام 2009 و2011، واعتبر أن منع الهجوم، هو أكبر نجاح له في فترة رئاسته.
لماذا فعلها بيريس إذا كانت إيران هي العدو الأكبر لإسرائيل وحامية حمى القضية الفلسطينية؟
القصة أكبر من يحدها المسطح المتاح للكتابة، ولا سيما أن العلاقات الإيرانية - اليهودية ضاربة في جذور التاريخ؛ ما يعني أن الرهان والمزايدة على الإشكالية الفلسطينية، والادعاء الكاذب بأن طهران تقود ما يعرف بـ«محور المقاومة»، ليس إلا إثارة للغبار، حتى تضيع معالم الحقيقية.
لا يمكن لإيران أن ترتدي زي الدولة المقاومة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ولا سيما أن الرابط بين طهران وتل أبيب يتجاوز فكرة البراغماتية، إلى الرابط التاريخي الواحد، منذ بضعة آلاف من السنين، منذ أن عرف كوروش، أحد أعظم ملوك الفرس الأخمينية (560 ـ 529 سنوات حكمه ق.م) أن هناك مستقبلا مشتركا للعرقين الفارسي واليهودي يربطهما وسط طوفان بشري من العرب، وهذا هو السبب الذي جعله يسمح بعودة «عزرا الكاهن»، ونحميا اليهودي العامل في بلاطه، من النفي، بعد سبي بابل الشهير (587 ق.م) إلى القدس لبناء الهيكل من جديد.
قبل بضعة أعوام تحدث بيريس عينه عن الدين الكبير الذي تطوق به إيران الفارسية عنق الشعب اليهودي؛ ذلك أنه لولا ما فعله كوروش من إعادة سبي بني إسرائيل بعد خمسمائة عام من الأسر في بابل، لما بقيت هناك بقية للشعب اليهودي.
حديث التعاون الإيراني - الإسرائيلي تحاول طهران أبدا ودوما مداراته ومواراته عبر تصعيد اللهجة الخطابية ضد إسرائيل، وتحديها للهيمنة الأميركية العالمية، ومغازلة التيارات الإسلاموية السياسية في الشارع العربي، عطفا على الولوج من ثغرة التعنت الإسرائيلي تجاه الحل العادل والشامل وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
يعلم القليلون كيف أن إيران تسير بالتزام شديد الدقة بخطة «ديفيد بن غوريون» المعروفة باسم «عقيدة دول المحيط، أو (Periphery Doctrine)» وقبلته إيران في زيارته السرية لها أوائل الستينات، وفيه دعوة لإقامة تحالفات استراتيجية وثيقة مع دول غير عربية في الشرق الأوسط لمواجهة المعارضة الموحدة للدول العربية لوجود إسرائيل، دول مثل إيران، تركيا، إثيوبيا، والناظر للخريطة الدولية اليوم يوقن بأن خطة بن غوريون ماضية قدما فعلا وقولا.
ما الذي قدمته إيران للقضية الفلسطينية حتى الساعة؟
واقع الحال يخبرنا بأن القيادات الإيرانية منذ عام 1979 لم تتصرف إلا من منطلقات ديماغوجية، أنها تدغدغ مشاعر الجماهير العربية والإسلامية بعبارات طنانة وشعارات رنانة مثل «يوم القدس» وغيرها، وإن تساءلت ماذا قدمت إيران للقدس أو للأقصى الذي تنتهك حرمته، فلن تجد في المحصلة شيئا يذكر بالإيجاب.
عمقت إيران الخلافات بين الفصائل الفلسطينية المختلفة ولا تزال، ودعمها للبعض منها ماليا أو عسكريا هو دعم قسري وليس طوعيا، مرتبط باستراتيجيتها الدعائية الأكبر، إنها تتطلع لاختراق آيديولوجي ناعم لعقول وشباب العرب والمسلمين، اختراقا يمهد لها الطريق لبسط نفوذها، وإكمال أطماعها في الشرق الأوسط.
دائما وأبدا كانت العقلية الإيرانية، ولا سيما بعد ثورة الملالي، تتلاعب بمقدرات تيار الإسلام السياسي، على أساس أنه قادر على سد تلك الفجوة الفارسية - العربية، ووضع إطار إقليمي طبيعي، يشملها عوضا من أن يستبعدها أو يعزلها.
منذ عام 1979، وكما يقول الكاتب الإيراني الأصل الأميركي الجنسية تريتا بارزي، تجاوز الثوار جنون العظمة لدى الشاه، فبدلا من مجرد السعي إلى السيطرة على المحيط الهندي وغرب آسيا، سعت حكومة الخميني أن تكون زعيمة العالم الإسلامي برمته، وليس أقرب أو أحب للمسلمين من اسم فلسطين وقضيتها العادلة التي يتولاها أزيف مدافعين، فلماذا لا يعزف الملالي على أوتارها إذن؟
يوما تلو الآخر تثبت الأحداث أن المزايدات الإيرانية على القضية الفلسطينية، مزايدات وهمية في الجوهر، وإن بقيت خطوات تكتيكية في المظهر، في حين يظل الهدف الاستراتيجي واضحا لا يتغير في طهران: «تفعيل طموحاتها الإقليمية وضمان أمنها على المدى الطويل، من دون التوصل إلى اتفاقيات حسن جوار مع العرب والسنة المحيطين بها».
تاريخيا، لا تحمل إيران ودا للعرب؛ ولذا يعد حديثها عن القضية الفلسطينية تلاعبا سيكولوجيا بالشارعين العربي والإسلامي.
لو كانت إيران بالفعل تتطلع لصالح القضية الفلسطينية لقامت بضبط المسافات بين الفصائل المتناحرة في الداخل بداية، ولعملت على لم شملها وجمع بعضها إلى بعض، ولو كانت معنية بتحرير الأقصى والحفاظ على المقدسات الإسلامية لما استمرت في زرع الفتن في المنطقة دوغمائيا تارة وسياسيا تارة أخرى.