فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

المواجهة الدولية والاستراتيجيات المتحوّلة

على أطراف جسر الشغور بريف إدلب الغربي، استهدفت طائرة من دون طيار أحمد سلامة مبروك عبد الرازق، المعروف بـ«أبي الفرج المصري»، القيادي في تنظيم «فتح الشام». تعيدنا هذه العمليّة إلى شبيهاتها التي استهدفت قادة التنظيمات الإرهابية، وهل يعبّر ذلك الاصطياد عن تفوّق مشهود في الحرب، أم عن انتكاسةٍ استراتيجية للدول المحاربة للإرهاب، باعتبارها تأخذ استراتيجياتٍ غير مؤثرة سريعًا في تغيير مشاهد المواجهة؟
ذلك أن استهداف القادة بين فترةٍ وأخرى عبر طائرةٍ مسيّرة لا يفتّ من كاهل التنظيم بالضرورة؛ نتذكر «القاعدة» و«طالبان»، وهما التنظيمان الأكثر تعرّضًا لضربات الطائرات المسيّرة، بالتأكيد تكبّدا خسائر فادحة، لكنهما بقيا فاعلين إلى اليوم.
الجنرال ستانلي ماك كريستال الذي تنسب إليه عمليّة الإشراف المباشر على اغتيال أبو مصعب الزرقاوي عام 2008، نقل عنه سخريته من عددٍ من المسؤولين الحكوميين، ومن بينهم نائب الرئيس جون بايدن، والأخطر اتهامه لهم بـ«الانهزامية بالحرب على الإرهاب»، الأمر الذي دفع الرئيس أوباما إلى استدعائه، وطلب منه أن يقدّم استقالته. منذ عقدين كان الصراع الأساسي بالنسبة للرؤية الأميركية بين استراتيجيتين:
أولهما: استراتيجية «كوين» المتطلّبة المزيد من الأموال لمجابهة الجماعات الإرهابية، التي تتطلّب المزيد من العتاد والقوات والأموال على الأرض، وهي أكثر فعاليةً لكنها بلا نهاية محددة، وقد تغرق الدول في دوّامةٍ طويلة من الحرب.
الاستراتيجية الثانية: تعرف بـ«CT - Plus» التي تركّز أمنيًا على الإطاحة برؤوس المتمردين وعناصر القاعدة البارزين، والفكرة الأساسية لهذه الاستراتيجية تحديد الأماكن للقادة استخباراتيًا، ومن ثم تنفيذ العمليّة عبر الطائرات المسيّرة من دون طيّار، غير أن نقّاد هذه الاستراتيجية يعتبرونها غير فاعلة لفصل الفصائل الإرهابية عن المجتمع، إذ تضرب بدقّة قياداتٍ محددة، لكنها لا تقتلع الجذر الأساسي لعزل التنظيم جغرافيًا واجتماعيًا، ولهذا فإن استراتيجية «كوين» تتضمن «القتل والقبض»، وتبدو أكثر فعاليةً في الحرب على الإرهاب، وقد تم استخدامها من أميركا في أفغانستان والعراق ضمن فترةٍ محددة، بينما «CT - Plus» تأخذ صيغة «الضرب ثم الهروب».
ثمة دراسات كثيرة تتعلق بالحرب على الإرهاب من خلال الطائرات المسيّرة، واستخدمتها أميركا في أكثر من ثماني دول ضمن نطاق الشرق الأوسط وأفريقيا، ضربت بأفغانستان، والعراق، وباكستان، واليمن، والصومال، وليبيا، ومالي، وقطاع غزة. ويعتقد محلل سياسي مثل ويليام فاف أن أميركا تزيد بإفراط في عمليّاتها بالطائرات المسيّرة، وفي اليمن والعراق خاصة، وقد يعود ذلك إلى التركيز على الاستراتيجية الأكثر أمنًا وتصويبًا، غير أنها ليست حاسمةً في المعارك الضارية التي تتطلب حضور على الأرض لتفكيك التنظيم، أو منازلته ومقاومته.
شكّل الاعتماد المفرط على الطائرات المسيّرة شعورًا لدى التنظيمات المسلّحة بأن الحرب عليها ليست جديةً بما يكفي، ذلك أنها لا تزال تمتلك الأرض، وتوسّع التجنيد، وتأخذ مساحاتٍ من النفوذ الاجتماعي من دون أي تدابيرٍ دولية.
على النقيض، أنتجت تجربة الطائرات المسيّرة تعاطفًا جزئيًا من قبل المجتمعات المأهولة بتنظيمٍ مثل القاعدة، مثلاً برايان جلين ويليامز يقول إن هذه الطائرات غالبًا ما توصف من جانب القرويين بأنها «زنابير» لأنها تلسع، أو صواعق لأنها تضرب من دون سابق إنذار. ولأن تنظيم القاعدة يحاول دائمًا إشراك المجتمع معه في الحرب على الأمم الأخرى، وذلك بحسب رسالةٍ لأسامة بن لادن نشرت ضمن «الوثائق»، وفيها يحذّر من إجبار اليمنيين على الانضمام للتنظيم، بل يكتفي بالتعامل معهم بالحسنى. وفي ظلّ الضرب المستمر من الطائرات المسيّرة، صنعت وشائج بين التنظيم وفئاتٍ مجتمعيّة في منطقةٍ مثل «أبين»، وهذا بفعل الاعتماد المفرط الحصري للطائرات من دون الأخذ بالاعتبار استخدام قوى أرضية مدربة، أو الدخول في مواجهاتٍ حاسمة تفرض نمطًا جديدًا على الأرض.
كتبتُ من قبل مقالتين عن الطائرات المسيّرة، إحداهما عن الجانب الأخلاقي، والآخر يمسّ السؤال الأمني، وهنا أتناول الصراع بين الاستراتيجتين الشهيرتين، بالتأكيد أن الحاضنة الاجتماعية للإرهاب تزداد إن تم الاعتماد فقط على الطائرات المسيّرة من دون تنويع الخطط تبعًا لمستوى خطورة الحضور الاجتماعي للتنظيم. على سبيل المثال، حين تم القبض على شخص أميركي من أصل باكستاني اسمه فيصل شاه، الذي همّ بتفجير سيارةٍ مفخخة في ساحةِ «تايمز سكوير» بنيويورك عام 2010، قال إن هدف العمليّة قتل أكبر عددٍ من الأميركيين، ذلك أن أميركا «تضرب بالطائرات المسيّرة عشرات الأطفال والنساء». هذه القصّة توضّح مستوى استغلال التنظيمات الإرهابية لأوجاع المجتمع العسكرية بغية الشراكة معه، ومن ثم القدرة على التغلغل فيه، مما يصعّب على المدى البعيد أي إجراء أمني لفك الاشتباك بين التنظيم والمجتمع، وهذا ما يجعل التفكير بطرقٍ أخرى للحرب على الإرهاب تتجاوز التكتيكات التقليدية الجبانة.
الإرهاب في جميع مناطق العالم مهما ضربته الطائرات المسيّرة يزداد شعورًا بالأمن أكثر من أي وقتٍ مضى.