أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

عثرة في طريق مكافحة الإرهاب

في مقولة سمعتها من أحد كبار القانونيين العرب المخضرمين؛ بأن المحامي لا يهدف في مرافعته ودفوعه إلى إحقاق الحق، بل الظفر بحكم يصب في صالح موكله، أي لصالح نفسه. وفي قانون «جاستا» محور حديث العالم اليوم، الذي أقره الكونغرس الأميركي مؤخرا ضد رعاة الإرهاب، تظفر مكاتب المحاماة الأميركية بدعاوى ضد واحدة من أغنى دول العالم وهي السعودية، لما يعتقد عن مسؤوليتها في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وحق أهالي الضحايا بتلقي تعويضات مالية.
من خلال «جاستا»، تتهشم قواعد مهمة في أرضية الاقتصاد والقانون، الأولى بأن الولايات المتحدة التي تعتبر بنكا لودائع السعودية قررت أن تسطو على مدخرات ومقدرات حليفها الثري.
ولأن الثقة هي كل شيء في تعاملات السوق والتجارة الدولية، فهذا يعني أن هذا القانون هو سيف مسلط على الرقبة للتحكم والسيطرة وليس بالضرورة للتنفيذ. أما في جانب القانون الدولي، يفرض علينا «جاستا» بأن تصار شخصية الدولة من كيان قائم ذي سيادة إلى فرد، أي من القانون العام إلى الخاص، تحاكم وتحاسب مجردة من سيادتها، حالة إذعان للدولة أمام شخص القاضي الذي يعتبر في النهاية مواطنا أميركيا.
الضيق من هذا القانون لم يشعر به السعوديون وحدهم، بل طال حتى الأميركيين أنفسهم، خاصة في الأجهزة الحساسة ذات العلاقة مثل الاستخبارات ووزارة الدفاع، وبالطبع البيت الأبيض الذي يجلس فيه الرجل الذي دخل التاريخ الأميركي بأنه الرئيس الذي انهارت خلال فترة حكمه أهم القيم الأميركية القانونية والإنسانية التي أسسها الآباء الأوائل.
ولأن تأثير العاصفة لا يزال قائما، تكثر التكنهات عن موقف الحكومة السعودية من القانون، وآلية التصرف حياله. والحقيقة أن القانون مليء بالثغرات وخطوط الرجعة، إن حسنت النوايا، وفرص التفاهمات حوله كبيرة، فمضمون النص نفسه أعطى السلطة التنفيذية ممثلة بوزير الخارجية حق وقف الدعاوى، أي أنه قانون تشريعي بتنظيم من الحكومة، إلا أني أعتقد أن الأساس الذي قام عليه القانون هو ما يستحق التفنيد والمراجعة.
إذا كانت الحكومة السعودية لا علاقة لها بهجمات سبتمبر، كما اتضح من التقرير الاستخباراتي السري الذي كشف مؤخرا، فكيف يمكن إدانة المملكة باستصدار مثل هذا القانون؟ الإشكالية في رأيي تحوم حول فكرة المسؤولية «غير المباشرة» عن العمل الإرهابي التي وردت في النص، وهذه فقرة مطاطة لا أحد يعلم مداها. فما معنى المسؤولية غير المباشرة؟ هل المقصود ثقافة الدولة المتمثلة في الخطاب الديني التي قد تكون من وجهة نظر القاضي الأميركي محركا ودافعا لخلق الشخصية العدوانية؟ أو نظامها المالي والمصرفي الذي قد يسمح بتسرب الأموال إلى الإرهابيين؟ فهذه أمور لا تحسمها الجهات القضائية، بل تفاهمات الدول مع بعضها.
عند هذه النقطة تحديدا علينا أن نراجع أحداثاً إرهابية كبرى ساهم الغرب مساهمة كبيرة في حدوثها وبشكل مباشر. فمنذ بداية التسعينات حاولت الحكومات العربية مع أهم العواصم الغربية؛ لندن وواشنطن وباريس، توضيح خطورة إيواء رموز التطرف وزعماء التشدد. لكن الحكومات الغربية كانت تأويهم من منطلق حماية حقهم الإنساني في إبداء الرأي وحرية التعبير، رغم أن بعضهم كانوا مطلوبين في بلدانهم في قضايا جنائية وصدرت في حقهم أحكاما قضائية.
والخطأ لم يكن فقط في الإيواء، إنما في الرعاية والإنفاق والحماية، كل هذه الحقوق كانت مكفولة لمنظري الإرهاب ودعاة الكراهية. حتى وهم يتمتعون بهذا المستوى من الرفاه لم يكونوا حامدين شاكرين، وربما يذكر البعض تصريح «عمر بكري» زعيم منظمة «المهاجرون» المتشددة التي تتخذ من لندن مقرا لها، حين قال إن توني بلير، رئيس الوزراء حينها، بات هدفا مشروعا بسبب مشاركة بريطانيا في ضرب أفغانستان بعد أحداث سبتمبر بشهر واحد.
مثل هذه التصريحات لم تلق تأثيرا في مقر الحكومة البريطانية، ولم يطرد بكري لتحريضه على القتل، ولم يحاسب على خطبه التي كان يلقيها في حدائق لندن حول تمجيد منفذي جريمة سبتمبر ووصفهم بـ«العظماء». لم تستفق لندن من سباتها إلا مع ضجيج التفجيرات في صيف يوليو (تموز) 2005، التي كانت درسا قاسيا للعاصمة البريطانية لم تكن بحاجة إليه. ولا بأس من الإشارة أيضا إلى أن واشنطن لا يمكنها تحميل الدولة المصرية وزر عمر عبد الرحمن، المتهم والمدان والمسجون في الولايات المتحدة على خلفية تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993.
لا أتفق مع من يقول إن نقص المعلومات هو ما يجعلنا نتصادم مع الغرب في أحكامنا ورؤيتنا وتفسيرنا لكثير من الأحداث. هذا غير صحيح؛ الجهل ليس المشكلة، الغرب يعرف أن الإرهاب آفة عالمية، وأن ليس من الإنصاف إلقاء مسؤولية التصرف الفردي على مجتمع كامل يعاني هو نفسه من التهديد الإرهابي، ويعرف كذلك أن الإرهاب هو ثمرة الخطاب الديني المتشدد، سواء كان صاحب الخطاب في تورا بورا أو في جنوب لندن، وهذا الخطاب مثل كرة الثلج، يتدحرج ليتضخم ويصبح خطرا من الصعب مواجهته. مشكلتنا مع الغرب أنهم غير مقتنعين بوجهة نظرنا في كثير من الأمور المتعلقة بالتطرف. هذا ما يجعل المسؤولية «غير المباشرة» الواردة في نص القرار، سببا لخلافات ممكنة في المستقبل.
أهم انتصار لفكر الإرهاب ولأصحاب الفكر المتشدد إن كان السني «أبو بكر البغدادي» أو الشيعي «خامنئي»، هو أن تقع خصومة أو خلاف بين أطراف مكافحة الإرهاب. هذا انتصار عظيم لهم.
والحقيقة أنه ليس من المفهوم بعد، كيف يمكن استمرار التعاون بين الرياض وواشنطن في ظل قانون «جاستا»؟ هل من الممكن أن تتدفق المعلومات الاستخباراتية بالسلاسة والمسؤولية السابقة نفسها بين البلدين، إن كانت واشنطن تشك في دعم الرياض للإرهاب، والرياض تشعر بالخذلان منها؟
«جاستا» ليس الامتحان الوحيد لقوة العلاقة بين الحليفين، لكن الأكيد أن تجاوز هذا الامتحان يصب في صالح دول المنطقة وأمنها، والعكس صحيح.