سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

عجائب الإسكندرية

لم أقرأ مرة عن الإسكندرية إلا مأخوذًا، ولم أكتب عنها إلا منبهرًا. منذ أن وقف الإسكندر فوق الأرض التي يريد أن يبني مدينته عليها، وهذه البقعة المتوسطية التي يصب عندها النيل، عصر جميل يولِّد عصرًا أجمل. حتى عندما بدأت تجف كحاضرة عظيمة، نشأ منها كفافيس، شاعر اليونان في القرن العشرين، وأشهرت بتاريخها وقصصها إي. إم. فورستر، ولورانس داريل برباعيته حاملة اسمها. وفي العصور الأولى، أعطت أهم العلماء، في طليعتهم أقليدس، الذي ظل سعيد عقل يصر حتى وفاته أنه من لبنان.
غير أن أعظم ما ذكر به التاريخ هذه المدينة، مكتبتها ومنارتها. وكانتا من الندرة بحيث بنيت حولهما الأساطير. وقد زالت الأولى في حريق غامض حتى اليوم، والثانية في زلزال حوّلها من أعلى منارة عبر العصور إلى أنقاض متراكمة. وكان يقال إن ارتفاعها 650 مترًا، وتضم 68 غرفة، وقد استغرق بناؤها 12 عامًا (300 ق. م). وقيل إنه كان في الإمكان مشاهدة أعلاها من إسطنبول، وإن المرمر الذي صُنعت منه يضيء حتى في منتصف الليل.
تحدث عنها معظم المؤرخين اليونانيين والرومان والعرب، من ياقوت الحموي إلى اليعقوبي والإدريسي وغيرهم. إلا أن الأكثر دقّة في وصفها كان مهندسا أندلسيا من مالقة يدعى يوسف ابن الشيخ البلوي، الذي توقف في الإسكندرية عام 1165م. وكانت الإسكندرية أول مدينة يتوقف فيها الحجاج الأندلسيون في الطريق إلى مكة. غير أن ابن الشيخ كان مهندسًا بارعًا بنى في مالقة 25 مسجدًا، ولذا، دوَّن أوصاف المنارة بدقة لم يسبقه إليها أحد. ولم يكن الوصف سوى فصل من كتابه «ألف باء»، وقد أراد الفصل درسًا علميًا لابنه، غير مدرك أنه سوف يصبح أهم وثيقة علمية حقيقية من بين جميع الكتابات حول الموضوع.
أخبرنا ابن الشيخ أن المنارة بنيت فوق صخور ضخمة في قلب البحر على بعد ميل من الشاطئ. وقد جاءها الرحالة الأكبر ابن بطوطة العام 1326م، بعد ثلاث سنوات من الهزة التي أردتها وأنهت أجمل آثار المنائر في التاريخ، غير أن حديثه عنها كان مثل معظم متعه السردية ناقص التفاصيل لأنه أملى رحلته في ديار الله بعد سنوات على انتهاء تجواله في الأرض. ومثل ابن الشيخ ومعظم الرحالة، بدأ كل شيء في رحلة الحج إلى أم القرى، ويعود الفضل للأساتذة الإسبان في تحقيق تواريخ الرحالة الأندلسيين وأعمالهم ومخطوطاتهم، وتلك صفحات باهرة من التراث أهملها المعنيون إلا قلة منهم. وفي هذه المناسبة، تحية إلى الدكتور عثمان الرواق، رئيس مركز دراسات الأندلس في الرباط، الذي أنشأه الأمير عبد العزيز بن فهد، الذي أعاد بناء قصر الحمراء في الرياض.