أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

التفاتة أميركية وهلع روسي

«متهورة»، «مستغربة»، «مفاجئة». توصيفات متلاحقة أطلقها فيتالي تشوركين، مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، على الطلعات الجوية الأميركية التي أدت إلى مقتل نحو 62، وأصابت مائة آخرين من جنود نظام الأسد في دير الزور قبل أيام، وأثارت غضب موسكو وهلعها بشكل غير مسبوق منذ تدخلها العسكري المباشر إلى المعترك السوري قبل عام.
مندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة، سامنثا باور، قالت إن ما جرى كان خطأ غير مقصود، حيث إن المنطقة المستهدفة كانت لـ«داعش»، وسبق أن ضربتها طائرات التحالف. ردت عليها بثينة شعبان، المستشارة السياسية والإعلامية لبشار الأسد، بأنه لو كان ما حصل خطأ غير متعمد كان الأجدر بالمقاتلات الأميركية بعد أن تنبهت أنها تقصف جيش النظام الاستدارة وضرب عناصر التنظيم الذين كانوا بمحاذاة الموقع، لكنها لم تفعل. «إنهم متواطئون مع (داعش)»، هذه آخر تفسيرات موسكو وتحليلاتها للواقعة، وهي توضح حالة الإرباك التي أصابت نظام الأسد وحلفاءه.
ذعر في موسكو من مفاجأة الضربة الأميركية، اضطرت مندوبهم لدى الأمم المتحدة للعمل يومين متتالين لإشغال مجلس الأمن بهذا الحدث الذي اعتبره تقويضًا للسلام في سوريا، وخرقًا صارخًا للهدنة، وطالب المجلس بعقد جلسة عاجلة طارئة. ومن هول تأثير الضربة الأميركية، سارعت وزارة الدفاع الروسية على موقعها الإلكتروني إلى بث تصوير جوي مباشر يظهر الهدوء في المناطق التي تخضع لهدنة كيري - لافروف، في إثبات على التزام حليفها الأسد وحسن نيته.
واقع مغاير تمامًا لما كان في الماضي القريب، حينما كانت الطائرات الروسية تدّعي أنها تستهدف التنظيمات الإرهابية، والحقيقة أن طلعاتها الجوية كانت ترمي لضرب الفصائل المعتدلة وتشتيتها وإضعاف سيطرتها في مناطقها لحساب «داعش». وكانت حينئذ واشنطن ومعها دول الخليج ينددون بهذه الخروقات الممنهجة التي راح ضحيتها آلاف من المدنيين الأبرياء، إضافة إلى أنها تخل بتوازن القوى بين الفرقاء بشكل غادر.
من حيث المبدأ، وقوع الخطأ الميداني أمر وارد، والشواهد حاضرة. قبل عام من الآن، أطلقت القطعات الحربية الروسية في بحر قزوين «بالخطأ» أربعة صواريخ استقرت في إيران بدلاً من أن تستهدف عناصر «داعش» في سوريا، أمر مشابه لما حصل قبل أيام في دير الزور. غُمّ على أعداء «داعش»؛ الروس والأميركان، فالتبست عليهم الأهداف! الأمر بهذه البساطة.
أما إذا أخذنا بالرواية الروسية ورواية بثينة شعبان أن واشنطن تعمدت استهداف عناصر النظام فعلينا أن نفند هذا الادعاء؛ لماذا قد يقرر الرئيس الأميركي باراك أوباما أخيرًا الخروج عن هدوئه وضرب جيش النظام أمام مرأى من عناصر التنظيم المتطرف، وتحت رصد أجهزة المراقبة الروسية التي هرعت لتنبيه الأميركان بأن المستهدفين ليسوا «داعش» بل جيش الأسد.. ما الذي تغير؟
الواقع هناك متغيرات من أكثر من جانب، كانت كلها مجتمعة سببًا للضربة الأميركية التي أبهجت كل المتعاطفين مع الإنسان السوري المقموع والمقتول والمُهجّر، تحمل رسالة واضحة للأسد وحلفائه؛ بأن الميدان السوري ليس ملكًا لروسيا، وكل أريحية التمدد التي تتمتع بها موسكو على الساحة السورية منذ عام هي نتيجة غياب اختارته واشنطن وليس بسبب التفوق السياسي أو العسكري الروسي. هذه الرسالة القاسية أقضت مضاجع بوتين وبشار الأسد، لكنها بالتأكيد لها امتدادات ستلقي بظلالها على المستقبل السوري القريب.
علينا ألا ننسى الأطراف المؤثرة في الساحة السورية اليوم؛ وهما: «داعش» مع «فتح الشام» من جهة، والمعارضة المعتدلة أي «الجيش الحر» من جهة أخرى، أما الروس فهمهم الوحيد هو خروج كريم من الأرض السورية يحفظ لهم قيمتهم التي سوقوا لها وضخمها إعلامهم ومهادنة الأميركان لهم. لذلك نراهم يرسمون خطة الهدنة، ويعلنون للعالم التزامهم بها. يظهرون بصورة مغايرة عن العام الماضي حينما كانوا كالجبابرة في أرض الضعفاء يبطشون دون رحمة. كما أن لهم تطلعات بأن يكونوا مفتاح الحل السياسي، وأن تكون المرحلة الانتقالية تحت إشرافهم. هذا الطموح كما هو واضح من الضربة الجوية التي جرت تحدده واشنطن، وليست الرغبة الروسية، وهي رسالة فظة وواضحة لبوتين ولافروف. طبعًا مع فرض أن ما حصل في دير الزور كان متعمدًا.
أيضًا من المهم الإشارة إلى الدولة الأكثر براغماتية في المنطقة والأكثر قوة ومصالح متشابكة مع كل الأطراف المعنية وهي إسرائيل، التي لن تتوانى حتى عن التعاون مع «داعش» إن لزم الأمر، في سبيل استقرار سوريا استقرارًا يصب في مصلحتها ويحافظ على هدوء الجولان. وإسرائيل التي تنافس طائراتها الطائرات الروسية في السماء السورية يعنيها أن تنتهي القضية لصالحها لكن لا أحد يجاهر بالتعاون معها، فهي كالشبهة التي يحوم الكل حولها ويوشكون أن يقعوا فيها.
هناك نظرية أشبه بالحقيقة يمكن تطبيقها على منطقة الشرق الأوسط حتى أجل غير مسمى؛ وهي أن أي طرف تحرص إسرائيل على بقائه هو اللاعب الكبير، والعكس صحيح، لذلك أيقن بشار الأسد أنه انتهى منذ تخلت عنه إسرائيل، قبل الالتفاتة الأميركية.
[email protected]