أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

«مكة» التاريخية تدخل العالم الرقمي

الحج، كمنسك وشعيرة، ليس حكرًا على الديانة الإسلامية، وإن كان أشهرها الحج إلى مكة. الحج عبادة تتضمنها ديانات وملل مختلفة. كثافة بشرية هائلة تسيِّر جموعًا لهدف عقدي معين، وتظل أهم الفوارق العملية بين طقوس هذه العبادة في مدى مشقة الرحلة على الحاج، وما قد يعانيه داخل الحشد من تعب الازدحام وخطورة التدافع، الذي يتطلب تنظيمًا عاليًا يحفظ حياة كل زائر ويحقق المقصد.
في كل عام، يراقب العالم، الإسلامي وغير الإسلامي، حركة الحجيج إلى مكة والمشاعر المقدسة خلال الأيام الخمسة للرحلة، منهم من يراقب بشعور طاغٍ من الروحانية والشغف، ومنهم من يتأمل بتعجب هذه الأمواج البشرية التي تتحرك وفق نسق محدد وآلية زمنية منضبطة ومسارات معلومة. ومنهم الحاسد الحاقد، الذي يشعر أن ميزة استقبال وخدمة ضيوف الرحمن شرف عظيم يود لو انتزعه من أهله، ولذا يتمنى وينشد الأذى والسوء في أقدس الأيام وأطهر البقاع.
المتصفح لصور الحجيج قبل 60 عامًا، وبعد ذلك بعقود، يلحظ مدى التغير الكبير الذي طرأ على المشاعر المقدسة والمسجد الحرام تماشيًا مع التطور في مرافق كثيرة في المملكة، لكن بالنسبة للقيادة السعودية، يحظى الحرمان الشريفان بنصيب مفتوح من ميزانية الدولة، ومشاريع تطويرهما لها أولوية في الإنفاق والتنفيذ بغض النظر عن الظرف الاقتصادي. هذا ما يجعل أيام الحج إلى مكة مختلفة عن سائر الأديان، إذ إن لها مقصدًا شرعيًا يرى في الحج منفعة أخروية ودنيوية وأيضًا هو أمر شرفي، تتمتع به السعودية حصريًا دون سائر البلاد الإسلامية، وكذلك تكليف ومسؤولية عظيمة على عاتق الحكومة في تيسير وتنظيم الرحلة الدينية وسط تحديات أمنية وصحية وخدمية هائلة.
هذا العام تحققت أمور استثنائية من حيث النسبة المنخفضة للحجاج المخالفين، التي بلغت 5 في المائة فقط مقارنة بالأعوام السابقة، مما يمنح استقرارًا أمنيًا وصحيًا أكبر للحجاج. وقد لا يصدق المرء وهو يستمع لأخبار الحجيج وحكاياتهم التلفزيونية، ومنها إجراء نحو مائتي عملية قلب مفتوح وقسطرة قلبية «مجانية» لحجاج يعانون من مشكلات صحية خلال أيام الحج، وتمكين معظمهم من متابعة أداء المناسك تحت الرقابة الصحية. ومن الناحية التقنية تحديدًا، فإن القائمين على تنظيم الحج يتطلعون لتحويل مكة المكرمة والمشاعر المقدسة إلى مناطق ذكية. هذا النوع الجديد من التطوير جاء بعد عقود من التطوير على مستوى البنية التحتية والمشاريع العمرانية التي تتيح التوسعة في المساحة لاحتواء نحو مليوني حاج كل عام بأقل قدر من الأضرار المتوقعة أو المشقة. اعتماد التقنيات الحديثة سيوفر من الجهد والزمن ما لم يكن في الحسبان، والأجمل أن مثل هذه النقلة النوعية لن تتوقف، لأنها مواكبة للتطور التقني المتجدد، الذي بات جزءًا لا يتجزأ من حياة الناس ويومياتهم. وربما أن أكثر المستفيدين من هذه التقنيات هم القادمون من مناطق ريفية أو فقيرة بعيدة عن المدنية، خصوصًا كبار السن منهم.
من هذه التقنيات مثلاً، دخلت الأسورة الذكية حيز التجربة هذا العام، وهذه الأسورة التي يضعها الحجاج تحوي كل منها بيانات كل حاج، وإذا، لا قدر الله، تعرض لحادث، فيمكن التعرف عليه فورًا دون انتظار الفحص المخبري المعتاد الذي قد يأخذ أيامًا. أيضًا المظلة الشمسية الذكية التي تحوي جهاز تحديد الموقع، وتحوي صفائح لاقطة للطاقة الشمسية تحولها إلى طاقة حركية تشغل مروحة باعثة للهواء، ويمكن أيضًا استخدام منافذ «يو إس بي» لشحن الهاتف الجوال.
من منافع هذه التقنيات أنه يمكن تطويرها في المستقبل، بإضافة المزيد من المزايا لتخدم الجهات الأمنية والصحية. وحتى مسارات تفويج الحجيج وتنقلاتهم باتت تحت مرأى طائرات دون طيار ترصد الحركة وترسل البيانات لمراكز العمليات لحظة بلحظة.
مثل هذه الخدمات الرقمية، والتقنيات الحديثة، تجعل من أمر الحج وشأن الحجيج أمرًا شفافًا واضحًا للسلطات والقائمين على التنظيم، سيصعِّب على من تحدثه نفسه ببثّ الفوضى والشغب وتعمد العمليات الانتحارية، تنفيذ مخططاته. ورغم أن دولة مثل إيران لها باع طويل في تخريب وترهيب الحجيج منذ قيام ثورة الخميني، تستمر في تهديد السعودية بإفشال موسم الحج والانتقام الدموي علانية وبلا خجل، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن نفسها وسوء سريرتها وتقف عاجزة أمام هذا الموسم الذي يجيء كل عام ليثير في نفوس قياداتهم الضغينة والأحقاد.
المسلمون الحجاج من باكستان وإندونيسيا وتركيا ومصر وغيرها من الدول، من لغات وثقافات ومذاهب إسلامية مختلفة، يقدمون إلى المشاعر المقدسة لهدف واحد، وهو أداء الركن الخامس في الإسلام، دون أهداف أخرى سياسية أو مذهبية، رغم أن هذه البلدان لديها تحديات وتعقيدات داخلية سياسية كبيرة. الحج عبادة، وإن اختارت دولة إسلامية ما منع مواطنيها من أداء هذه العبادة، فهذا شأنها وشأنهم، وإن أرادت بناء «كعبة» أخرى لهم ليطوفوا حولها بدلاً من كعبة إبراهيم عليه السلام، فهذا أيضًا قرارها، ولكنْ هناك أيضًا حق أصيل للحكومة السعودية بأن تقف ضد تسييس الحج أو تحويله إلى ميدان مظاهرة، إرضاء لأقلية مذهبية تحاول فرض أجندتها على دولة ذات سيادة مكلفة بخدمة المسلمين من كل المذاهب، وتبذل الكثير لذلك، سواء اختلفت معهم أو اتفقت.

[email protected]