سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

ثقافة الخط

الخط عند الصينيين فن في مستوى الشعر، أو يكاد. وفي الحضارة العربية هو في مكانة الرسم لدى الغرب، ولا أدري سبب النقص في عدد الخطاطين عند المخابرات العربية. فاليافطات يؤلفها رجل واحد، عادة عديم المخيلة، عديم التجديد. ويكتبها خطاط واحد، غالبًا عديم الموهبة، أو يشعر بملل عميق من المهنة التي اضطر إليها.
يؤلِّف المؤلِّف الشعارات التي تُطلب منه، ويكتب الخطاط ما يُملى عليه. ويحدث ذلك في جميع الأنظمة المتشابهة، سواء بالحرف الصيني، أو العربي، أو الكمبودي.
وأيام كانت أفكار «الكتاب الأخضر» مسيطرة على العالم المنبهر، كانت تُرفع في بيروت يافطات موحدة عن «النظرية الثالثة»، وقرب حلولها محل الرأسمالية والاشتراكية.
المشكلة الوحيدة كانت - كما دائمًا - في نوعية الخط. فقد اشتهر لبنان بكبار الخطاطين في العالم العربي، وأحدهم كتب قصيدة على حبة من الأرز. غير أن خطاطي اليافطات كانوا دائمًا على مستواها، ينعكس اشمئزازهم من محتواها على إهمالهم في خطِّها.
لا أعرف إن كان توارد خواطر، أو أفكار، أو مستويات. لكنني أكتشف اليوم من قراءة كتاب فرنسي عن كمبوديا وبول بوت، مدى تقارب الألمعيات. ففي الوقت الذي كانت يافطات بيروت تقول إن أعين العالم على «النظرية الثالثة»، كانت المفوضية الفكرية في ثورة الخمير الحمر، تُصدر بيانات بمثل هذا النص:
«إن العالم برمّته يشخص بعيونه إلى كمبوديا الديمقراطية، لأن ثورة الخمير هي الأكثر جمالاً ونقاء. إن الحكومة الخميرية لا سابقة لها في تاريخ العالم. لقد حلّت مشكلة التناقض الأبدي بين المدينة والريف. إنها تشمل تعاليم لينين وتتجاوز ماو تسي تونغ».
كيف حل بول بوت التناقض بين الريف والمدينة؟ خلال ثلاثة أسابيع كان قد أفرغ العاصمة بنوم بنه، حتى من المرضى الذين تركهم يموتون على الطرقات. وبعد ثلاث سنوات عندما دخل الجيش الفيتنامي المدينة، وجد فيها 70 كائنًا بشريًا تائهين في مدينة أشباح.
ما هي الأعداد في نظر مرضى العنف ومبشري البشاعة؟ لا تنظر إلى الفظاعات المرتكبة حولك. انظر إلى ردود الفعل. لا تنظر إلى التوحش، بل إلى الصمت عنه، أو حتى الترحيب به. أمَّة على الطرقات، والناس تبحث عن خطاطين يكتبون يافطات الترحيب. بخط بشع وحروف من أبجدية دراكولا.
كنت، وسوف أظل، مقتنعًا بأن المشكلة غالبًا في المتلقي، لا في الملقن. لكن في هذا القول ظلم كبير لأحرار العالم ورافضي العبوديات والقهر المنظم. وأولئك الذين تخطوا كل مخيلة وكل طاقة بشرية في طلب الكرامة الإنسانية.