يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

هل تحسم نهاية «داعش» معضلة الإرهاب؟!

مع أنها خطوة رمزية، فإن قيمتها كبيرة على مستوى الإسلاموفوبيا المنتعشة في البلدان الغربية، حيث أعلنت كندا تسمية «داعش» بدلاً من «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على التنظيم الإرهابي، حيث كان معتمدًا في السابق عند الحديث عنه بشكل رسمي في البلاد، في محاولة لفصل الإسلام عن شبهات التنظيم المتطرف، وهي خطوة قصرت عنها بعض القنوات العربية التي تملك حيادًا غير مبرر فيما يخص ثيمة الإرهاب، وتحيّزًا كبيرًا فيما يخص الحالة السياسية واستقرار الدول التي بالكاد تخرج من عواصف الربيع العربي.
بهذا التصرف الحضاري من قبل كندا يمكن القول إنها تقدم نموذجًا يحتذى للدولة الواعية في دمج الأقليات الدينية، وخصوصًا ما تحظى به الجالية المسلمة هناك من تفهم كبير من قبل الدولة، التي خرجت من العموميات إلى التفاصيل حتى في طريقة تعاملها مع إشكاليات الخلاف داخل البيت الإسلامي، بين تيارات ومذاهب عادة ما تنجح في جرّ أزماتها وإشكالياتها الدينية معها في المهجر.
كندا تملك ترسانة بحثية جيدة حول مسائل الأقليات والإرهاب، بسبب تقاطر الجاليات عليها من كل بلدان العالم الثالث، لذلك تعد مراكزها تقارير دورية عن الحالة الدينية من جهة، وعن نزعات التطرف والنزوح نحو مناطق التوتر والقتال بكل شفافية، باعتبارها مشكلة قومية وليست حدثًا طارئًا، من جهة أخرى. وفي آخر التقارير الصادرة عنها، لاحظت الدولة زيادة نسبة المنتسبين لتنظيم داعش، لا سيما من النساء اللاتي يذهبن بغرض الزواج من الإرهابيين، حيث بلغ إجمالي عدد الكنديين الذين يُشتبه بانضمامهم إلى صفوف التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش؛ 180 كنديًا عام 2015، بعد أن كانوا 130 خلال 2014، وعاد 60 منهم إلى البلاد العام الماضي، وهي أرقام تبدو غير مقلقة إذا ما قيست بدول غربية أخرى، إلا أن عودة ما يزيد على النصف بشكل آمن للبلاد يطلق صيحات الخطر حول ظاهرة قد تعم العالم بعد تفكك التنظيم في مناطق التوتر في العراق والشام، وهي «العائدون من داعش»، فقد شهدنا ظاهرة مشابهة ظلت خطرة حتى اضمحلال سطوة تنظيم القاعدة، حيث شكل «العائدون من أفغانستان» لبنة تكون تنظيم القاعدة العالمي، لكن ظاهرة «العائدون من داعش» أكثر خطورة لأسباب كثيرة؛ أولها خلو العدد الأكبر من عناصر التنظيم من سجلات أمنية، بسبب حداثة السن والتجربة وعدم المرور بفترة حضانة للتطرف والأصولية التي كانت أبرز محطات المقاتلين في التنظيمات الإرهابية السابقة لـ«داعش»، كما أن تطور وسائل الاتصال وبناء الخلايا وتنفيذ العمليات بات أكثر تهديدًا من السابق، بسبب تفوق العمليات الفردية لما سمي بـ«الذئاب المنفردة» على الإرهاب التنظيمي أو القائم على تنسيق خلايا وكوادر بشكل جماعي.
التقرير الكندي أيضًا لاحظ أن دوافع المنتسبين لـ«داعش» مختلفة، وقد تكون متباينة، يتقدمها الدخول في تجربة عنفية والعيش في أجواء التجنيد والتدريب، وهو ما يشكل حماسة لفئات من الشباب لا تملك قناعات سابقة متطرفة، كما أن دعاية «داعش» وصلت إليها قبل أي محتوى مضاد يحذر من انتماء كهذا، إلا أن دافعي الزواج والمال قد يعدان من الدوافع الغريبة على مستوى مماثل في تجربة المقاتلين العرب، حيث لم تضف التجربة القتالية لهم أي دوافع مادية أو مالية، بل على العكس يتم استخدامهم في نقل الأموال وجمعها والدعاية للتنظيم.
بعد كثير من هروب الضيقة، كان الزرقاوي قتل أخيرًا في قصف جوي أميركي في يونيو (حزيران) 2006، وعلى مدى السنوات القليلة التالية، تمكنت الولايات المتحدة من أن تهلك كثيرًا من تنظيمه. ومع ذلك، ظلت الجمر خطيرة، ثم اشتعلت فيها النيران تحت قيادة الزعيم الجديد للمجموعة، أبو بكر البغدادي، الذي كان قد بنى شبكة كبيرة من المؤيدين، في حين قضى فترة في معسكر بوكا، وهو سجن تسيطر عليه الولايات المتحدة، وهي شبكة معروفة باسم «الجامعة الجهادية» لدورها في تطرف السجناء. أما طائفية رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي فقد أخرجت المهمشين على نحو متزايد من السنة في أحضان «داعش» - دينامية سارعت قبل انسحاب القوات الأميركية في عام 2011. وفي الوقت نفسه، في سوريا، خلقت فوضى الحرب الأهلية الظروف المثالية للنمو الهائل لـ«داعش» وقاعدة لدولة الخلافة المزعومة التي نصبت نفسها بنفسها.
دورات الإرهاب عشناها منذ إرهاب السبعينات المسلح، مع بدايات انفصال جماعات العنف عن الجسد الإسلامي في الحالة المصرية ثم الجزائرية ثم انتشار ذات الأسباب في باقي البلدان، وهو النزاع على الشرعية الدينية وتكفير الأنظمة ووسم المجتمعات بالجاهلية، والبحث عن حلم الخلافة الذي كان حاضرًا بقوة حتى عند باقي التيارات الدينية التي لم تنزع نحو التكفير أو الخروج بالسلاح درءًا للفتنة وليس إيمانًا منها بواقعية مشروع الدولة القطرية كتنظيم سياسي مضاد لمفهوم الأمة الشمولي والعام، ولا يمكن الحديث عن أي تحولات جذرية أو مراجعات جادة حول مستقبل التطرف متى لم يتم تأصيل مفهوم المواطنة وحماية الحدود والإيمان بمشروع الدولة الحديثة وحب الحياة واحترام التجارب الحضارية الكبرى أو تكون مؤمنًا بأن العالم كله دار كفر والمجتمعات ضالة بحاجة إلى العودة لرشدها، وهي أفكار ما زالت عالقة في النقاش المتجدد كل مرة داخل أروقة البيت الإسلامي مع تجدد الحوادث الإرهابية.
ورغم التراجعات الكبيرة لتنظيم داعش، فإنه لا يمكن الحديث عن نهاية الإرهاب أو التطرف، فتلك مسألة ليست حاسمة حتى مع حسم المعارك على الأرض في مناطق التوتر، فحالة التهميش للتطرف والحركات الراديكالية الصاعدة منذ عقود يعني خلق دورات جديدة من العنف المسلح تحت أسماء وتنظيمات جديدة، ما دام الدافع والمحرّك هو الخطاب المتطرف والحاضنة السياسية وتنازع الدول الكبرى حول مفهوم الإرهاب بشكل متحيّز (تجربة الحشود الشعبية والميليشيات الشيعية لمحاربة داعش مثال صارخ)، ولذا فإن التحرّك النفعي المؤقت ضد «داعش»، واستغلال ملفات العنف من قبل دول ومنظمات سياسية للتأثير على الأنظمة العربية، هو لعب بالنار سيحرق المنطقة بالكامل، ولا يجدي حينها هذا التراشق اللامسؤول حول كرة الإرهاب الملتهبة والمدمّرة، ولا أحد قادر على التنبؤ بحجم ما ستبتلعه في طريقها.

[email protected]