وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

ثمن استرضاء تركيا

أين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان اليوم من رجب طيب إردوغان الأمس؟
شهر بأكمله انقضى على محاولة الانقلاب عليه وتحركاته السياسية توحي بأنه لا يزال رهين صدمة تفاعلاته الداخلية والخارجية.
على الصعيد الداخلي، كان الرئيس إردوغان بطاشًا في استغلاله المحاولة الانقلابية «لتطهير» الدولة والقضاء والمؤسسة العسكرية من معارضيه في عملية يكشف حجمها حالة «البارانويا» التي خلفتها المحاولة الانقلابية في الدوائر الحاكمة وحزب إردوغان تحديدًا.. إلا أن التأثير الأعمق للصدمة الانقلابية كان في استدارة الرئيس إردوغان 180 درجة في توجهاته الخارجية، بحيث أصبح ضد كل من كان مع - بما في ذلك حلف شمال الأطلسي - ومع كل من كان ضد، بمن فيهم مصدر متاعبه الأمنية والسياسية الراهنة، الرئيس السوري بشار الأسد.
سرعة الانقلاب الدبلوماسي قي علاقات الرئيس إردوغان باللاعبين الأساسيين في حرب سوريا الأهلية - الإقليمية قد تعتبر مثالاً عمليًا للانتهازية السياسية في عالم اليوم، فحتى الأمس القريب لم تكن أنقرة وطهران تلتقيان على غير موقف واحد: مناهضة مشروع «الدولة الكردية». فجأة، وبلا مقدمات سياسية أو أمنية، أصبح ما يجمع تركيا وإيران على صعيد النزاع السوري أعمق بكثير مما يفرقهما، وإن كان تراجع إيران السريع عن التسهيلات التي منحتها لسلاح الجو الروسي قي قاعدة همدان الجوية يثير تساؤلات حول انعكاساته السياسية على التقارب التركي - الإيراني في حال رفض روسيا دعوة طهران البروتوكولية للعودة إلى استعماله.
أما الانقلاب الآخر في علاقة الرئيس إردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين فلم يكن مفاجئًا بقدر ما كان مستغربًا في توقيته؛ إذ إن مساعي التطبيع مع روسيا كانت قد بدأت قبل عدة أشهر، وأثمرت قبول بوتين اعتذار أنقرة عن حادثة إسقاط المضادات التركية طائرة «سوخوي» الروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
ربما يبرر تعثر الأوضاع الاقتصادية - وعلى الأخص تراجع دخل القطاع السياحي - حرص إردوغان على تسريع رفع العقوبات التي فرضتها روسيا على تركيا إثر حادثة طائرة «السوخوي». ولكن تجاهل إردوغان لحالة التوتر القائمة مع حليفه الغربي الأساسي، الولايات المتحدة، يثير تساؤلاً جديًا عما إذا كان يتعامل معها بمقاربة استراتيجية أم تكتيكية فحسب.
علاقة الرئيس إردوغان بالولايات المتحدة مرّت بشؤون وشجون منذ رفض واشنطن اقتراحه فرض منطقة حظر جوي بموازاة حدودها مع سوريا، وازدادت توترًا بعد تلكؤ واشنطن في الاستجابة لطلب حكومته تسليمها الداعية الإسلامي فتح الله غولن المتهم بتدبير محاولة الانقلاب المحبطة. ولكن هذه ليست المرة الأولى التي تختلف فيها أنقرة مع واشنطن دون أن يتجاور الخلاف نطاق حلف شمال الأطلسي (أشهر هذه الخلافات كانت عقب احتلال تركيا لشمال جزيرة قبرص عام 1974 وعقب رفضها استعمال القوات الأميركية قاعدة إنجرليك لغزو العراق عام 2003).
إردوغان يدرك تمامًا حدود خلافات أنقرة مع واشنطن وما يمكن أن تقدمه روسيا لبلاده مقارنة بما يمكن أن تقدمه - وما زالت تقدمه - الولايات المتحدة في إطار حلف شمال الأطلسي. ولكنه يعلم أيضًا مدى ترحيب الرئيس الروسي بأي خلاف ينشأ بين أعضاء حلف الأطلسي وباستعداده «لمواكبته» بأي إجراء أو «تنازل» ممكن. ومن المعروف أن روسيا تدين منذ عقدين من الزمن ما تصفه بـ«التمدد الأطلسي» في أوروبا الشرقية. وفي الآونة الأخيرة صعدت انتقاداتها للحلف ووصفته بمصدر خطر عليها.
على ضوء هذه الخلفية قد يشكل خلاف تركيا والولايات المتحدة فرصة بوتين المواتية لتعزيز التقارب مع تركيا على حساب علاقاتها مع الولايات المتحدة.. ولكنه، بالمقابل، يشكل فرصة إردوغان لاستعمال العلاقة المتحسنة مع موسكو كورقة ضغط على واشنطن في التسوية السياسية المنتظرة للنزاع السوري.. وبانتظار أن يلتقط الرئيس إردوغان أنفاسه، سوف يكتفي بمحاولة وأد الدولة الكردية في مهدها كثمن ظرفي لتقلباته السياسية.