سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«كل استحالة صارت واقعًا»: هوامش الأسفار وطرائف الأخبار

عام 1974 كانت ألمانيا الغربية تنتخب رئيسًا لها. والرئاسة فيها منصب شرفي، رمزي، لا أهمية له. ومع ذلك قال غسان تويني ونحن في طريق العودة من نيويورك: «عرِّج على بون، فالرئيس الجديد صديقنا وصديق لبنان». في بون اكتشفت أن مستشار الرئيس الجديد هو الملحق الصحافي السابق في سفارة ألمانيا في بيروت، الهر باش فون هلبل. وكان الرئيس فالتر شيل نفسه يعرف «النهار». فقد كان قبل أشهر قليلة في بيروت كوزير خارجية. تمت المقابلة بسهولة، خصوصًا أنه ليس مسموحًا للرئيس أن يقول شيئًا سوى التمنيات والآمال. وكل ما كان يقوله كوزير خارجية لم يعد مسموحًا له بأن يردده الآن. لكن بدل الحصول على «سبق» تتناقله وكالات الأنباء، حصلت على ما هو أجمل بكثير. هدية موقعة من الرئيس الألماني الغربي، هي أسطوانة تحمل الأغنية الشعبية التي أطلقها حديثًا، من أجل أطفال ألمانيا. قدمتُ الهدية لغسان تويني، باعتباره أحق مني بها. نزلت في «فندق الصحافة» في بون. وكان يُفترض أن أمضي يومين أو ثلاثة. لكن في بون كانت تنتظرني إحدى أحب المفاجآت. ففي غداء أقامه سفير لبنان، كسروان لبكي، الصحافي الكبير الذي كسبته الدبلوماسية، فوجئت بوجود شيخ الدبلوماسية العربي، وشيخ الأصدقاء، جميل الحجيلان. وبعدها أصبح هذا الكنز من الرفعة والمودة يمر بي كل مساء لنتناول العشاء في ضواحي بون المليئة بالقصور والحدائق والغابات والتاريخ وألوان نهر الراين، بين انسياب وآخر، ضفة وأخرى.
تلك كانت أول مرة أشاهد فيها ألمانيا من الداخل، وليس من نوافذ القطارات، وأتعرف إلى مرابع الجمال في بلد لم يشتهر إلا بالقوة، هازمًا أو مهزومًا، محتلاً أو محتلاً. لا تغيير في الحركات. طبعًا كان الأرقى والأعرق في كل ذلك، السفير جميل الحجيلان، الذي أسس مدرسة في الدبلوماسية وفي كل عمل رسمي تقلده. وقد رمى سحره على فرنسا طوال 23 عامًا، يتغير رؤساؤها، وكل رئيس جديد يطلب من الرياض إبقاء السفير. وما من مرة كان سفير السعودية وحدها. وبصفته عميدًا للسلك الدبلوماسي العربي في فرنسا، شعر كل سفير عربي آخر بأن هذا الراقي العريق يمثله أيضًا.
سميت بون عاصمة ثانية لكي يظل الباب مفتوحًا أمام عودة الوحدة الألمانية وعودة برلين عاصمة لألمانيا «التي فوق الجميع». وبدا ذلك مضحكًا ورومانسيًا. فهل يمكن أن تتوحد ألمانيا بعد محنتي الحرب الأولى والثانية؟ لن يرفض ذلك أعداؤها السوفيات فحسب، بل أصدقاؤها الجدد أيضًا من أميركا وبريطانيا وفرنسا. «لا تقل أبدًا أبدًا» تقول الأغنية. عام 1989 سقط جدار برلين الذي لا يسقط، وبعدها بعام عادت برلين عاصمة الوحدة التي لا تتوحد، وعادت بون مدينة صغيرة (350 ألف نسمة) على الراين، تتذكر يوم كانت عاصمة مؤقتة، يهدهدها الراين كل مساء حتى تنعس وتغفو. وذات صباح أفاقت من النوم لتفاجأ بأن «التاريخ قد انتهى»، كما قال فوكوياما، متسرعًا. إلى اللقاء..