سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «غيمة من الغبار»

تفككت إسبانيا كإحدى إمبراطوريات الأرض، كما تفكك الأندلس من قبل. وقال مفكرها الكبير خوسيه أورتيغا إي غاسيت في وصف ذلك: «مثل غيمة من الغبار ملأت الجو، فيما راح شعب عظيم يعدو منحدرًا على طريق التاريخ السريع». بعدما اكتشف كولومبوس أميركا، راح الإسبان يضمون إلى مملكتهم بلاد الآزتيك والإنكا، ويحملون ذهبها، وضموا جزءًا كبيرًا من فرنسا، ومن هولندا، وجنوب إيطاليا، والفلبين، والكونغو، وسريلانكا، وجزر سوماترا، والأزوريس. باختصار، أضخم إمبراطورية منذ روما.
خلافًا للإمبراطوريات المسيحية الأخرى، كان في قلب إسبانيا ثمانية قرون من الحضارة الإسلامية في أوجها وأجملها. الأندلس، جوهرة تاريخها، كما يراه العالم أجمع، وجوهرة تاريخنا عندما نحب أن نتذكر مراحل العز والرقي. كتبتُ دائمًا أنه لكي تعرف معاني الأندلس، اصغ إلى الدليل الإسباني يحدثك عن ماضيك. ثمانية أقاليم تشكل أندلس اليوم وسط سلسلة من الجبال التي ملأها العرب خصبًا وازدهارًا: من ألمرية في الجنوب الشرقي، إلى قادش في أقصى الغرب. إشبيلية وغرناطة وقرطبة، الأندلس هو إسبانيا الرومانسية التي اغترف منها الكتّاب، مثل الفرنسي تيوفيل غوتييه، أو الأميركي واشنطن إيرفينغ. ويقول جان موريس، إنك تلمح عادة إسلامية في قرى الأندلس، ليس في الآثار، بل في الناس. «وغالبًا ما تردُّ امرأة منديلها على وجهها بخفر، كما لو أنها ترد حجابًا عند رؤية رجل غريب».
إسبانيا السياحية اليوم، هي إسبانيا الأندلسية. شمسها هنا وفيؤها هنا. مشمس وكاسف، يسمى الساحل الأندلسي. وسوف تسمع صدى الأندلس في الأغاني والموسيقى الشعبية: الموال والدبكة. وتتذكر مع «الفلامنكو» أغنية فيروز: «خبطة قدمكم عَ الأرض هدّارة». أو سوف يعود إليك نغم الاستعطاء المتوسل والحزين الذي تسمعه في مدن الفقر العربية. وثمة قصيدة إسبانية في هذا المعنى: «صَدَقة، سيدتي، صدقة، فليس في الحياة أقسى من أن يكون الإنسان أعمى في غرناطة». لا حاجة إلى القول إنه ليس أقسى على إنسان من أن يكون أعمى في أي مكان في الأرض. غير أن المقصود هنا أن العمى لا يحجب فقط رؤية الحياة والطريق والأحباء، وإنما يحجب أيضًا جمال غرناطة.
أعود لأنقل عن ساحرة كتابة الأسفار جان موريس، التي تجوب الأندلس الحديث، وتشعر أن الأندلس العربي يطل عليها من جميع النوافذ «تظن نفسك أحيانًا وكأنك في العقبة، أو في مسقط، يمر أمامك تاجر ضخم ومعه سلة من التمور». بل تقول: «إن نوعية الحياة وعبقها في إسبانيا لا يزال إسلاميًا في العمق، فموهبة الإسبان في التمتع بالحياة تذكرني أحيانًا بالبلدان العربية. وخصوصًا بمصر» إذا أنت لم تتذكر، سوف يذكرك بذلك الدليل السياحي الذي يردّد أمام زواره أن «الأندلسيين لا يزالون يحفظون كثيرًا من العادات المغربية».
والإسبان يسمون العرب مغاربة، والذين كانوا يدافعون عن فرانكو، كانوا يسمون المغاربة. والمحزن أن الذين فجروا قطار المساء في مدريد، كانوا يحملون جنسية المغرب. الجنسيات مزورة أحيانًا ولو صحيحة. إلى اللقاء.