ديانا مقلد
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
TT

كلا.. لم ننجُ

هل يكفي ألا نكون ضحايا مباشرين للقتل وألا نكون جناة حتى نتنفس الصعداء ونعتقد بأننا ناجون.
وأي نجاة هذه التي تختصر بوهم أنه ما لم نكن ضمن العابرين المحتفلين في شوارع نيس الفرنسية، فنحن بخير، وأننا ما دمنا لسنا سائق شاحنة الموت، فكل شيء على ما يرام..
نعم، لسنا الضحية ولسنا الجاني، لكننا ببساطة لم ننجُ. فها نحن مرة جديدة نتأرجح ما بين مشهدين قاتلين، مشهد المجزرة نفسها بما فيها من دهس وإزهاق أرواح ودماء، ومشهد ما بعد المجزرة من انفجار لمزيد من مشاعر الكراهية وسيل التعليقات والمقالات والمواقف التي لا تفعل سوى التمهيد لمقتلة جديدة ولعالم أكثر عنفًا وضيقًا بنا وبهوياتنا.
بعد مجزرة نيس هناك في الغرب من شرع يؤنب قادة فرنسا والغرب ويطالب بالأمن والحماية وبرفض تلك الدعوات «اليسارية» و«الليبرالية» لمواقف غير عنصرية ولا متطرفة أمنيًا أو اجتماعيًا ضد المسلمين. وهناك في مجتمعاتنا من احتفى بمشهدية الدهس الجماعي لمواطنين غربيين ثمنًا لسياسة قادة دول الغرب، كما يروج الموتورون.
نحن من نفترض أننا نجونا نجد أنفسنا في كل مرة إزاء موجات من ردود الأفعال التي تشعرنا بأنها أقسى أحيانًا من القتل نفسه، وبأن الحياة تضيق حتى لتكاد تخنقنا، فأي نجاة هذه خصوصًا حين نجد من يكتب على «فيسبوك» و«تويتر» أنه كان بقرب مكان المجزرة، لكن الأقدار حالت دون أن يكون ضمن الضحايا.
بالحقيقة، نحن إن لم نمت فنحن شهود ومشاركون سلبيون فيما يحصل عقب المجزرة. فتكرار عمليات القتل الإرهابية على هذه الوتيرة وما يستتبعه من ردود أفعال لا يحقق سوى إنتاج مزيد منها.
فرنسا وحدها تعرضت لخمس هجمات إرهابية حتى الآن وما حصل بعد مجزرة نيس يحاكي سابقاتها، أعني ذاك التركيز الإعلامي على سياسة أمنية رادعة من دون ذاك العمق الاجتماعي والثقافي الذي تحتاجه مجابهة ذاك القتل. فالإلحاح عبر مقالات وتعليقات إعلامية بأمن قوي وقع في فخ اليمين، حيث يروج قاموس قيم التشدد والتقوقع. لكن المشكلة التي لا تستطيع المشاعر الهائجة التقاطها هي أن أي دولة في العالم لا يمكنها أن تردع شخصًا فاقدًا للتوازن النفسي والعقلي ويقود شاحنة يقتل بها يمنة ويسرة. والمفارقة هي أن سائق الشاحنة اقتحم احتفالاً بيوم فرنسا الوطني، وقبل دخوله كانت الطائرات الحربية الفرنسية تستعرض في السماء قوتها الردعية التي يفترض أنها إحدى وسائل حماية الفرنسيين. لكن مختلاً كالذي قاد الشاحنة برهن كم أن تلك الطائرات وترسانة الصواريخ المتطورة عاجزة عن حماية محتفلين بشوارع نيس من الموت دهسًا..
حتمًا يستحق الفرنسيون كما أي شعب تعرض لمثل هذا القتل أن ينال كل التضامن والتعاطف من العالم، لكن ما يقلق هو أن ردود الأفعال باتت وسيلة الإرهابيين الفضلى للتجييش والتجنيد والتخطيط لما هو أفظع. لذا ليس من باب السذاجة القول إن المنطق الوحيد الممكن حاليًا هو التسليم بأن السياسات التي اعتمدت في التعامل مع العمليات الإرهابية عمومًا لم يثمر أمنًا، بل ها هو خيال «داعش» يواصل جموحه على نحو صادم ومثير في آن.
لن يسع فرنسا التي كانت تتخايل بقدراتها الدفاعية وبطائراتها الحديثة أن تردع مختلاً في شاحنة، فـ«داعش» يستثمر في ذاك الوهن الذي سببه تقاعس العالم وتواطؤه على إبقاء هذا التنظيم.
[email protected]