نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

اعتذارات.. ومليارات

شهد الأسبوع الحالي اعتذارين شهيرين، طال انتظارهما..
اعتذار نتنياهو لإردوغان، واعتذار إردوغان لبوتين. وترافق هذان الاعتذاران مع اعتذارات رياضية قُدمت بفعل مفاجآت نتائج مباريات الـ«يورو 2016» وكوبا أميركا.
اعتذارات الرياضيين أخف ظلاً وأقل كلفة من اعتذارات السياسيين؛ ذلك أن ميسي مثلاً لم يُفقد الأرجنتين ولا أميركا اللاتينية مليارات الدولارات نتيجة إخفاقه في اعتلاء عرش التتويج وحرمانه الملايين الأرجنتينية من فرح عارم، ففي تلك البلاد للفوز الرياضي مذاق ألذ بكثير من مذاق أي فوز آخر.
أما اعتذارات السياسيين، فتحتاج إلى حاسوب لم يُخترع بعد لتحديد كم مليارًا خسرت بلدانهم جرّاء تسرعهم والإتيان بسلوك كان يمكن تفاديه إلا أنه جرّ عليهم كوارث وخسائر، فنتنياهو أمر قوات الكوماندوز الإسرائيلية بقتل ركاب سفينة مرمرة، وكان قد أمر وزارة خارجيته بإجلاس السفير التركي على مقعد منخفض في حركة استعلاء صبيانية قلما حدثت في المجال الدبلوماسي منذ كان في العالم دبلوماسية.
مضى على الواقعتين ست سنوات بالتمام والكمال، انخفضت فيها العلاقات الاستراتيجية بين البلدين إلى مستويات متدنية، وأغلقت الأبواب أمام تطوير علاقات مستقبلية يرسمها الغاز الكثيف والكثير الذي سيستخرج من إسرائيل.
بعد اعتذار نتنياهو الذي وصف في إسرائيل بالمذل، وبعد دفع تعويضات زادت على العشرين مليون دولار، عاد المعتذر من روما إلى تل أبيب رافعًا رايات النصر، وهي رايات عجيبة غريبة، تُرفع للشيء وعكسه، فقد رفعها يوم نفذ الكوماندوز أوامره لقتل ركاب مرمرة، ورفعها كذلك يوم قبل الأتراك اعتذاره عما فعل، وبين ذلك اليوم ويوم روما تبددت في الهواء مليارات الدولارات.
أما إردوغان صاحب الرقم القياسي في تجنيد الخصوم وتحويل الأصدقاء إلى أعداء، والذي أمر في ساعة انفعال بإسقاط الطائرة الروسية ورفض الاعتذار في اليوم التالي حفاظًا على سمعة دولة الخلافة الأطلسية، ورفض كذلك مبدأ التعويضات لأسرة الطيار الروسي الذي قتل، نجده اليوم يدافع عن لغة اعتذاره: «أنا لم أعتذر ولكني أسفت»، ويوافق على مبدأ التعويض شريطة ألا يقال إنه تعويض، وبين ساعة إسقاط الطائرة الروسية ويومنا هذا وإلى حين عودة العلاقات الروسية التركية إلى سابق عهدها، وقد يستغرق الأمر سنوات، فكم يا ترى أهدرت تركيا وروسيا من المليارات؟
إذا كانت أخطاء الزعماء التي تكلف المليارات ويُكفّر عنها الاعتذارات صارت واحدة من علامات العمل السياسي في زمن الديمقراطيات الحديثة، فإن هنالك قائمة طويلة لمن يفترض أن يعتذروا ولم يفعلوها بعد، فمتى يعتذر كاميرون عن ارتجاله استفتاءً وضع العالم وجهًا لوجه أمام تفاعلات غامضة لم تحصَ خسائرها بعد؟
ومتى يعتذر المرشد آية الله خامنئي عن النزف المدمر للاقتصاد الإيراني جراء مغامرة المفاعل النووي الذي تبخر وتبخرت معه المليارات؟
ومتى يعتذر كثيرون من الزعماء عما ارتكبوه من أخطاء كانت لحظة ارتكابها مجدًا لا يضاهى، وساعة حساب خسائرها كوارث لا تضاهى كذلك.
لقد تمكن بعض المفكرين من استحداث مصطلح مخفف للاعتذار عن الكوارث وسموه بالنقد الذاتي، أما صديقي الراحل محمود درويش فقد أخرج نفسه من الحكاية كلها، حين أصدر ديوانًا شعريًا مميزًا عنوانه.. «لا تعتذر عما فعلت».