بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

تغير إيجابي رغم المآسي

للتعبير عن توقع مفاجآت صادمة ومتسارعة خلال وقت قصير، ربما لا يتجاوز سبعة أيام، يردد ساسة الغرب جملة فحواها أن «الأسبوع وقت طويل في عالم السياسة». مر القول أمامي خلال متابعتي الأحد الماضي وقائع مجزرة أورلاندو، وما أثارت من ردود فعل تسارعت عبر قارات العالم الخمس. إذ ذاك، وجدتني أتساءل: كم هو طويل ذلك الزمن الفاصل بين ما بعد ظهر الجمعة في مدينة لويفيل بولاية كنتاكي، وليل السبت – صباح الأحد في أورلاندو، ولاية فلوريدا؟
بالفعل، ليس ثمة ما يجمع حدثين يفصل بينهما زمن يقل عن يومين، سوى أن كليهما يمت بصلة ما للدين الإسلامي. لكن ما أوسع البون بين الإسلام المحتفى به في حفل تأبين محمد علي كلاي، بعد تشييع جثمانه، وبين زعم مرتكب جريمة أورلاندو أن ما فعله ينتمي للدين الحنيف. كلا، ثم كلا ليست تُعد ولا تُحصى، لن يقبل أكثر من مليار مسلم أن يُنسب القتل العشوائي إلى دينهم، بصرف النظر عن طول ذراع مصطادي الشبان لتجنيدهم في صفوفهم، وعن مدى انتشار زيف ادعائهم عبر مواقع الإنترنت. في نهاية المطاف، طال الزمن أو قصر، سوف تنتهي إلى غير رجعة أبشع ظاهرة إرهاب باسم الدين الإسلامي عندما يتم اقتلاع أساس جذورها، وتُجفف كل تربة يُحتمل أن تُغرس فيها بذور فكر التطرف وتنطع الممارسة من جديد.
المنطق يقول إن هذا الأمر لا مفر حاصلٌ، صحيح أن الإصلاح يجري ببطء، أعني إصلاح مفاهيم أوجدت تربة استغلت في نمو مزارع إرهاب ببقاع عدة من العالم، لكن المهم أنه يحصل، ثم إنه يثمر، وتكفي ملاحظة تسارع إدانة الأجيال الشابة لجريمة أورلاندو على مواقع التواصل الاجتماعي لتثبت أن التغيير حاصل.
ثم إن النظرة إلى الإسلام والمسلمين تتغير هي أيضًا، على امتداد العالم، ولو ببطء كذلك. قد يقال إن شخصًا مثل الحاخام مايكل ليرنر معروف بتعاطفه مع المأساة الفلسطينية ومعارضته لسياسات حكومة بنيامين نتنياهو، وحكومات إسرائيلية سبقتها، وبالتالي لم يكن مفاجئًا ما قال في حفل تأبين محمد علي. مع ذلك، فإن تأثير الحماسة التي تحدث بها مايكل ليرنر، دفاعًا عن الإسلام وفصلاً بينه وبين زُمَر الإرهاب، كان واضحًا على الجمهور المستمع، وفي الصفوف الأمامية منه شخصيات لها دورها الفاعل سابقًا وحاضرًا، مثل الرئيس الأسبق بيل كلينتون. الشيء ذاته يقال أيضًا بشأن الشخصيات التي تمثل مختلف الديانات والأعراق والاهتمامات، وتحدثت في الحفل بنفس إيجابي يتناسب وصورة الإسلام كما جسدها الراحل محمد علي.
في السياق نفسه، تابعت مساء أول من أمس (الاثنين) نقاشًا عبر إذاعة «إل بي سي» البريطانية، فلفتني حرص أغلب المستمعين على التفريق بين جرائم الإرهاب وبين الإسلام. تردد تعبير خلاصته أن «وجود تفاحة معطوبة في الصندوق لا يعني أن البقية مثلها». منطق صحيح، بالطبع. المهم أن يبني المسلمون على ما يتحقق من تغيير إيجابي عالميًا لصالح فصل دينهم عما يُرتكب باسمه. قد تكون مهمة هذا البناء مسؤولية حكومات، أو مؤسسات، بالدرجة الأولى، بيد أن هذا لا يعني إعفاء الأفراد، بل ربما العكس هو الأصح، إذ بوسع تصرف فردي بشع أن يهدم أي إنجاز إيجابي بلمح البصر. حقًا، بقدر ما هو مؤلم جريان الدم ظلمًا وعدوانًا باسم الدين في ديار المسلمين أنفسهم، وحيثما أمكن للشر أن يضرب، مفرح أيضًا أن ترى نمو التفهم العالمي، من جديد، لحقيقة أن تلك الزُمر المعادية للحياة، عدو للإسلام ذاته، وأن مكان خوارج هذا الزمان ليس فقط خارج منطق العصر، بل هم في الأساس خارج البيت الإسلامي نفسه.