خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

نكهة رمضانية

لكل موسم أو شهر في السنة رائحته التي تخلد في ذكرياتنا. لشهر رمضان المبارك رائحة تخلد في نفوس الكثيرين. هناك من يتذكر رائحة شوربة العدس، أو شواء الكباب. يرتبط شهر رمضان في نفسي برائحة الرمان. اعتقدت والدتي أن عصير الرمان يقطع العطش، فواظبت على إعداد كمية منه لسحورنا. ما إن ننتهي من الفطور حتى نجتمع حول المائدة المثقلة بالرمان. يتسلم أخي مؤيد السكين ويبدأ بالتقطيع، ويكون أخي مظفر قد غسل يديه جيدًا ليبدأ باستخراج الحب من أرباع الرمان. ويشمر موفق عن ذراعيه ليشرع بعملية العصر المضنية. وتقوم والدتي بجمع العصير ثم تبريده في الثلاجة انتظارًا للسحور.
وخلال ذلك يكون البيت برمته قد تلوث بقشور الرمان وعصيره وبذوره. حيثما تمشِ تعثر على قشرة رمانة أو يقرقع تحت قدميك شيء من بذورها. ويبقى الحوش يعج برائحة الرمان حتى اليوم التالي.
«اشربوا يا أولاد. انت ابني خالد، اشرب! اشرب! أنت ضعيف. تحتاج هواية رمان». كانت والدتي تقلق على نحافة بدني وشحوب وجهي وتعتقد أن الرمان مصدر جيد للحديد. ما إن يدوي صوت المدفع الثاني مؤذنًا بابتداء الصوم، حتى نهرع لنكرع ما استطعنا أن نكرع من عصير الرمان. يسيل ماء الرمان على وجوهنا وصدورنا ودشداشاتنا ونحن نحمد الله على بركته ونعمته، ربنا الذي وهب بني آدم هذه النعمة الجبارة، شجرة الرمان.
شهر رمضان، ككل المواسم الدينية لكل الملل والنحل، يتميز بجوه العائلي، باجتماع الأسرة، صغارًا وكبارًا حول سفرة الأكل، فطورًا وسحورًا، ونفائس الطعام. هكذا كنا نجتمع كبقية العوائل حول مائدة الفطور، ولكننا في بيتنا، كانت لنا مناسبة أخرى لهذا الاجتماع العائلي، أقصد بها موعدنا مع الرمان وعصره.
مرت تلك الأيام والليالي، واختفت بغداد من أفق حياتي، ولكنني ما زلت لا أرى الرمان في دكاكين لندن، حتى أبادر لشراء كمية منه عالمًا تمام العلم أن الرمان الإسباني الذي يباع في أسواق لندن غير رمان مندلي الذي اعتدنا عليه، كل واحدة بحجم بطيخة، أحمل هذه الرمانات الإسبانية بيدي فتذكرني برمان العراق وأيام عصر الرمان، مثلما تذكرني هذه الأيام من شهر رمضان برائحة الرمان وقشوره وبذوره ومائه. ظل الاثنان متلازمين في روحي ونفسيتي.
في هذه الأيام الرمضانية المباركة التي مرت، خطر لي أن أسأل الإخوان والأخوات في لندن، عما يتذكرونه من أيام رمضان في طفولتهم. حكيت لهم عن طقوسنا في البيت وحكاية الرمان وتعلق والدتي به كمادة مضادة للعطش. نظرت الحاجة أم فاضل في وجهي في عجب وقالت: «الرمان؟! الرمان يا عزيزي هو الذي يسبب العطش! من أين جاءت أمك يرحمها الله بهذا الاعتقاد؟ كل الناس في العراق يعرفون أن الرمان يعطش الإنسان! نحن في البيت كنا نعتمد على نقيع الطرشانة (المشمش المجفف). هذا هو الذي يقتل العطش».
المسكينة والدتي، عليها رحمة الله، كم كانت تعاني من العطش! الآن فهمت!