محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

الطائرة المنكوبة والتفاصيل الصغيرة!

على الرغم من انتشار القضايا الكبرى المسببة للتحليل السياسي والاستراتيجي في الإقليم العربي حولنا، تبقى بعض الأمور الأخرى التي تشير إلى أن تلك القضايا الكبرى لها أسباب صغرى نستهين بها، سواء في التفكير العربي أو في مواجهة الأحداث وفهمها. من تلك الأمور حادث تحطم الطائرة المصرية في البحر الأبيض، الأسبوع الماضي، ورغم انتشار جثث القتلى في العراق وسوريا واليمن وليبيا، فإن قتلى الطائرات له ردة فعل إنسانية مختلفة، لأنه موت الفجيعة غير المنتظر.
انتشرت التحليلات المختلفة حول أسباب سقوط الطائرة.. بعض تلك الفرضيات كانت قريبة إلى العقلانية، وبعضها جمح به الخيال إلى حد السفه، وتوزعت التكهنات بين مدافع وشامت. ما أود مناقشته هنا ليس موضوع الكارثة بحد ذاتها، بل أمد بصري إلى الدروس المستفادة التي يجب أن نمعن النظر فيها، فالقول الفصل في الحادث هو ما بعد انتشال الصندوق الأسود، ومعرفة يقينية للأسباب التي أودت بحياة آمنين من جنسيات مختلفة.. تركيزي على ثقافة الإهمال في قضايا تبدو للبعض صغيرة ولكن لها أهمية حضارية ومسلكية كبرى، فالإهمال في الأشياء الصغيرة يؤدي إلى أن الأشياء الكبرى تهمل نفسها!
أرجو أن لا يزعج هذا التحليل الذي أكتبه أحدًا، فقد كُتِب بروح تتوخى لفت النظر إلى أهمية التفاصيل الصغيرة في أعمالنا، على رأسها الطائرات ووسائل النقل كثيفة الحمولة، التي قد تسبب أحداثًا مروعة لعدد كبير من الناس، ليس من أجل البكاء ولكن من أجل توخي الحذر والاحتياط لما سوف نقوم به من أعمال في المستقبل. والدافع الأساسي للكتابة ما قرأت من البعض من «دفاع غير منطقي» لتبرير حادث الطائرة، وكأنه «دفاع عن شرف الوطنية» دون التوقف لما يحتمل من أخطاء قد تقع، إلى الكوارث، ذلك الموقف الدفاعي يسهل الخطأ من جديد، ولا يقدم حلولاً منطقية لما نواجه. ولديّ شكوك بأن ثقافتنا العربية بشكل عام لا تهتم بالتفاصيل الصغيرة! وهي الأهم في تجويد الأعمال، ذلك بطرح سؤال منطقي هو: كيف يمكن لشركة طيران عريقة ولها تاريخ أن تتوافق مع معايير القرن الحادي والعشرين، في ظل منافسة دولية كبرى، للارتقاء بنوعية الخدمات التي تقدمها، وكيف يمكن أن تؤدي مشكلات صغيرة إلى الوصول إلى مشكلات كبرى تشوه السمعة دوليًا.
قبل البدء في الحديث عن الطائرة، وعلاقته بالاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، فإني أقرأ كتابًا حديثًا لجوزيف ساسون بعنوان «تشريح الاستبداد»، وهو كتاب لافت في موضوعه وتفاصيله، فقد اهتم الكاتب بسبر أغوار أسباب حدوث الربيع العربي في الدول التي حدث فيها، وفي غياب الحصول على وثائق، أو في الامتناع عن السماح للوثائق الخاصة للأنظمة المطاح بها فيما قبل الربيع العربي بأن تُقرأ وتُحلل. في غياب تلك المعلومات، لجأ ساسون إلى قراءة المذكرات التي كتبت من قبل رجال عملوا قريبًا من تلك الأنظمة على مر عقود. ما لفت نظري إحدى النتائج، مفادها أنه على الرغم من أن هناك تراكمًا في المعلومات لدى هذه المجتمعات (العربية)، فإن ذلك المخزون من المعلومات لا يُحلل بشكل جيد، أو يستخدم بشكل فعال. يستطرد الكاتب ليعطي مثالاً على ما ذكر فيقول: المثال هو اغتيال الرئيس السادات، بينما المعلومات كانت متوفرة، ولكن المتابعة كانت معيبة! القضية هنا هي عدم «الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة».
عودة إلى الناقل المصري «خطوط الطيران» في السنوات الأخيرة؛ استخدمت شخصيًا هذا الناقل الوطني، فلديه طائرات حديثة وأسطول كبير وخبرة إنسانية لا يستهان بها، إلا أن مغالطات تقوم بها عقولنا تأخذنا إلى مكان الاستهانة بالتفاصيل الصغيرة. في إحدى الرحلات بين القاهرة والكويت، دخلت حمام الطائرة لغسل يدي، بعد أن استقرت الطائرة في ارتفاعها، فلم أجد في الحمام ماء! خرجت أسأل أو قل: ألفت نظر السيدة المضيفة، فقالت ببساطة: «يمكن نسوا»، وفي مرة أخرى كنت قادمًا إلى القاهرة من باريس على رقم الرحلة المنكوبة نفسه، في مقصورة درجة رجال الأعمال، كان هناك «شلة» إما أصدقاء أو ربما أقرباء، طوال الرحلة حولوا المكان تقريبًا إلى «نادٍ خاص».. بالحديث بين بعضهم بصوت عال، غير عابئين ببضعة أنفار معهم في المقصورة، ولكن الأكثر إيلامًا أن الطائرة وهي تتجه إلى النزول، لم يأبه أحد منهم بربط حزامه، بل استمر اثنان منهم وركبهما على المقعد قابضين على ظهره، يتحدثان مع زملائهما في المقعدين الخلفيين، حتى حطت الطائرة على أرض المطار، الأعجب أنه لا أحد من طاقم الطائرة نبههم إلى أهمية الجلوس في المقاعد وربط الأحزمة عند نزول الطائرة، ربما كان لهم وضع خاص!! هذا النوع من التصرف الذي أجزم أنه يتكرر لدى ناقلين آخرين في فضائنا العربي، يجابه عادة من شركات أخرى بحسم حتى يصل إلى الصلافة، ولكنه في فضائنا العربي متسامح معه، تلك التصرفات لها تعبير «اللامبالاة» أو «الخمول في المسؤولية». طبعًا ليس الذي واجهت يمكن أن يعمم، ولكن اعتقادي أن هناك عشرات من «الإهمالات» الصغيرة قد يكون واجهها غيري، وهي إهمالات إن تراكمت فإنها تؤدي إلى الكوارث في أي من نشاطاتنا الإنسانية! عدم الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، نقيصة في مجمل ثقافتنا العامة، نابعة من التراخي في المسؤولية أو ربما «الفهلوة» التي تحدث عنها الكاتب الرائع حامد عمار، كان يتحدث عن تشوهات في الشخصية، التي منها عدم الاهتمام بالمسؤولية العامة، واعتبار أن «الأمور يمكن تضبط نفسها بنفسها»، ومن الطبيعي أن نتحدث عن «الشخصية الفهلوية» كنمط من أنماط الشخصية العربية التي تنتشر بيننا. وهي ليست قاصرة على الناس العاديين، بل إن بعض المثقفين يمكن وصفهم بامتياز أنهم «شخصية فهلوية» عندما يقدمون التحليل للناس غير القائم على معطيات علمية ومن نسج خيالهم، على أنه أمر «مُفكَّر فيه» و«ثابت علميًا». من الصحافيين أيضًا هناك أنماط من الشخصية الفهلوية التي تدعى ما ليس لها به علم، وتعرضه على الناس وكأنه معطى لا يأتيه الباطل من بين يديه أو خلفه!! ينتشر هذه النمط في التعليم والطب والإدارة وهو أحد أهم أسباب التخلف في مجتمعاتنا.
غياب الرقابة في الأمور الصغيرة وغير الملاحظة، الذي يراها البعض غير مهمة، وفي غياب العقاب والمتابعة اللصيقة، يستسهل الناس أداء الأعمال المنوطة بهم، ويخلفون بعد ذلك كثيرًا من الألم لأناس آخرين كل ذنبهم أنهم وثقوا في النظام الموضوع!!
آخر الكلام:
عندما تعلو العاطفة في مناقشة الأمور المصيرية، تُفقَد الرؤية الموضوعية، وتقع الخطيئة التي هي أكبر من الخطأ!