عندما يمرر مجلس الشيوخ الأميركي، مشروع قانون يتيح لضحايا هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، مقاضاة المملكة العربية السعودية، فلا بد أن شيئًا ما، في الموضوع ووراءه، ولا بد أن تمرير مشروع قانون بهذا المعني، ليس من مصادفات الحياة السياسية في الولايات المتحدة!
وعندما يصرح المتحدث باسم البيت الأبيض، بأن الرئيس أوباما سيمارس، إزاء المشروع، حق الفيتو الممنوح له، كرئيس للبلاد، وأنه سوف لا يسمح بتطبيقه حتى لو مرره مجلس النواب ذاته، فإن تصريح المتحدث باسم البيت الأبيض هنا، يجب في ظني ألا يؤخذ هكذا من حيث الظاهر فيه، لأن شيئًا ما، أيضًا، يبدو أنه كامن وراءه!
ثم عندما يأتي هذا كله في سياق أعم، يتحدث عن وجود رغبة لدى أطراف أميركية، في الكشف عن محتوي 28 صفحة جرى تسويدها في تقرير اللجنة الوطنية الأميركية للتحقيق في الهجمات، فالرغبة هنا كذلك، تبدو والله أعلم، رغبة غير بريئة في مجملها، وفي سياقها العام.
لقد مر على التقرير 14 سنة كاملة، ولم يحدث من قبل أن صرح أحد بأن هناك ما يدين الرياض في التقرير كله، ولا في الـ28 صفحة خصوصًا، ولم يحدث أن راح طرف يُلمح، وآخر يصرّح، داخل الولايات المتحدة، بمثل ما يجري التلميح إليه تارة، والتصريح به تارة أخرى، في الأسابيع القليلة الأخيرة.. لم يحدث، ولهذا، فالشيء الذي لا يخفى على متابع، أن وراء التلميح، بمثل ما وراء التصريح، شيء ما، يُراد أن يقال، ويراد تسريبه لسبب ليس معلومًا لنا!
إنني لا أفرق - مثلاً - بين احتجاز عدد من طائرات الأباتشي المصرية، في واشنطن، وحديث الـ28 صفحة الذي يدور بقوة، ويشتد، ويتضخم هذه الأيام.
في وقت طائرات الأباتشي، وكان ذلك في أعقاب ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013 مباشرة، كانت الطائرات قد ذهبت بغرض الصيانة، وكانت صيانتها لا تستغرق في أحوالها الطبيعية أسابيع معدودة على أصابع اليدين، ومع ذلك فإنها استغرقت عامًا، أو ما يقرب من العام!
لم يكن تأخر تسليم الطائرات، بعد الانتهاء من عملية صيانتها، لأن الصيانة قد تأخرت، ولا لأن الأجهزة الأميركية المعنية قد قررت أن تعيد صيانتها من جديد.. مثلاً، ولا لأن أجهزة معنية أميركية أخرى قد اكتشفت عيوبًا في الطائرات، ولا لشيء من هذا النوع أبدًا.. ولكن كان الواضح أن تأخير تسليمها كان مقصودًا، وكانت الحكومة في القاهرة كلما جددت السؤال عن موعد عودة طائراتها إليها، رد الأميركان المعنيون وقالوا: غدًا.. وهكذا.. وهكذا.. بالضبط كقصة صاحب المطعم الذي طاب له أن يخدع زبائنه فكتب على واجهة المطعم: الأكل غدًا مجانًا!
وكان كلما جاءه زبون جائع مسكين، يُمني نفسه بأن يتناول طعامًا بالمجان، أخذه صاحب المطعم إلى الخارج وطلب منه أن يقرأ اللافتة بصوت مسموع، فيقول الزبون المسكين: الأكل غدًا مجانًا.. ويعاجله الرجل المخادع ويقول: أنت نفسك قلتها بلسانك.. إنه غدًا، كما قلت أنت لا أنا.. وليس اليوم!
شيء من هذا المعنى كانت الإدارة الأميركية وأطراف خارجها، تمارسه مع القاهرة، على مدى أيام، وأسابيع، وشهور، من قصة الأباتشي، وكان الهدف هو ممارسة نوع من الابتزاز السياسي مع مصر ليس أكثر.. ولو أعدنا قراءة القصة ذاتها الآن، ومن أولها، وبكل فصولها، فسوف يتجلى فيها معنى الابتزاز السياسي بين الدول، في أقوى صوره وأشكاله!
ولا تختلف حكاية الـ28 صفحة، مع الرياض، عن حكاية الأباتشي مع القاهرة.. فالحكاية هي نفسها، مع اختلاف الأدوات، ومع اختلاف الظروف والسياق!
إذا كان في الصفحات المذكورة، ما يدين السعودية حقًا، فهل كان من المتصور أن تسكت إدارة بوش الابن أو إدارة أوباما من بعدها، عن الكشف عن مثل هذه الإدانة ولو ليوم واحد، وليس لـ14 عامًا كاملة!
وإذا كان فيها ما يدين المملكة، فهل كانت إدارة أوباما في حاجة إلى مثل هذه التسريبات المريبة التي تخرج علينا، منذ فترة، وتبدو في كل حالاتها، وكأنها قنابل دخان، أو بالونات اختبار.. لا فرق؟!
لقد قرأت كل ما نشرته صحافتنا العربية عن الصفحات الثماني والعشرين، وفي كل مرة كنت أقرأ فيها شيئًا عنها، لم أكن أضع يدي على معلومة محددة، وكل ما كنت أصل إليه، أن الصفحات ليس فيها شيء يدين السعودية، وأن الإدارة الأميركية لهذا السبب، مدعوة إلى الكشف عما في هذه الصفحات، وبسرعة!
وكنت في كل مرة أشم رائحة عملية ابتزاز للرياض التي أتصورها قادرة على الوقوف، ثم الصمود، في مواجهة ما يثار حولها، في هذه القصة تحديدًا، ليتضح لها في النهاية، أن وراء القصة ما وراءها، وأن ما وراءها ابتزاز من النوع الرخيص!
TT
رائحة ابتزاز سياسي!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة