خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من آخر المؤامرات

أقول هذا العنوان «من آخر المؤامرات»، بدلا من مجرد «آخر مؤامرة»؛ لأن المؤامرات عندنا سيل لا ينقطع، فهي الشيء الوحيد الذي نقوم، وأحيانا نبدع، في إنتاجه. وآخر ما سمعته هو أن المعمارية زهاء حديد، قد قتلها الأميركان بالتعاون مع الصهيونية العالمية. وإن كنت تسأل فالجواب هو لأنها كانت تفوز بسائر المقاولات الهندسية الكبرى وتحرمهم منها. فضلاً عن ذلك أنها بدأت بتلميع وجه العرب أمام العالم. كيف يمكن للمرأة العربية أن تنجب شخصا بمثل هذه العبقرية الأصيلة؟ وإلا فكيف ماتت؟ سمعتهم يقولون. كل هؤلاء الأطباء البارزين وهذه المستشفيات الشهيرة في أميركا تعجز عن معالجة وعكة صدرية بسيطة؟ طبعًا غير ممكن. ألم أقل لك؟ قتلوها!
لا أدري لماذا ذكرني ذلك بوفاة المطربة أسمهان في حادث انقلاب سيارة. قالوا في حينها إنها كانت تعمل للمخابرات البريطانية وانتهت مهمتها، فقرروا تصفيتها ودفن ما عرفته من أسرار بحادث سيارة!
والظاهر أننا لا يمكن أن نتصور سيارة تنقلب وتسبب كارثة. وهذا ما كان من فحوى المؤامرة الكبرى التي ما زال كثير من العراقيين يؤمنون بها. حكاية مقتل الملك غازي في الثلاثينات بانقلاب السيارة التي كان يقودها. ولحسن حظ رواة المؤامرات أن ذلك جرى في وقت كان المغفور له يروج لبعض السياسات والمبادرات المناهضة للمخططات البريطانية في المنطقة العربية. فلم يجد رواة المؤامرات أي صعوبة في لصق حادث انقلاب أو اصطدام السيارة بطروحات الملك الشاب. نعم قتله الإنجليز لوطنيته. وصدق التهمة الكثير من العراقيين وبعض العرب. وذاق مرارة السجن بعضهم، بسبب ما كتبوه في أدبياتهم عن المؤامرة. كان منهم أخي مظفر، رحمه الله.
أصبح الإنجليز ملمين بهذا الهوس العربي بالمؤامرات، وبلصق هذه المؤامرات بالإنجليز. ولا أدري ما إذا كان وكلاء المخابرات الألمانية في زمن هتلر، قد لعبوا دورهم في إذكاء هذه الروح. وهكذا فعندما مرض الملك فيصل الأول، والد الملك غازي، بمرضه الخطير الذي تطلب عناية ومعالجة خارج العراق عام 1933. لم يجرؤ السفير البريطاني على الإشارة بنقله إلى إنجلترا فيموت فيها ويصبح مادة لحبكة مؤامرة جديدة، فأشار بإرساله للتطبب في سويسرا، بعيدا عن سواحل بريطانيا. ومع ذلك لم يسلموا من التهمة. ما إن ورد نبأ وفاته وأذيع في بغداد، حتى سرت الإشاعة، قتلوه الإنجليز بالتعاون مع الأطباء السويسريين. رشوهم وحملوهم على تسميمه.
وقبل ذلك شاعت مؤامرة قتل الزعيم الوطني ضاري. كان هاربا من وجه العدالة لقيامه بقتل الجنرال لتشمان. بيد أن ضاري اضطر لتسليم نفسه للسلطات، إثر إصابته بمرض السرطان. لم يكن هناك في ذلك الزمن أي علاج لهذا المرض غير تهدئة الألم بالمورفين. وهو ما فعله الطبيب البريطاني بسلسلة من إبر المورفين حتى حلت ساعة أجله. ما زال بعض العراقيين يؤمن بأن الطبيب الإنجليزي ضربه بإبرة سامة وقتله. وهكذا حذر الشاعر الشعبي ملا عبود الكرخي، أبناء بلده:
«لا تقول لو يحبسوك
بإبرة نشتر يضربوك»
العجيب في الأمر، أن العراقيين لا يزالون يتهالكون على العلاج في المستشفيات البريطانية.