يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

الملك سلمان وتطويق الإرهاب

هناك اغتباط لا يمكن للعين أن تخطئه بهذه الانعطافة الجديدة في تاريخ العلاقة السعودية – المصرية، التي شهدت منذ زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز التاريخية قبل أيام ذروة مجدها، بعد أن حصد إعجاب المصريين وقلوبهم قبل أن يكون أول مسؤول سعودي بهذا المستوى يلقي كلمته أمام مجلس النواب المصري وأول من يزور الأزهر الشريف باعتباره مؤسسة دينية ذات ثقل إسلامي كبير، كما أن هذا التحالف غير المسبوق لم يقتصر على الجانب السياسي، بل تعداه إلى حرص الملك سلمان عبر كل هذه الاتفاقيات على النهوض بـ«مصر» مجددًا في خطوة لإعادة ترميم البيت السني الكبير، والانتقال من مرحلة انتظار المنح إلى تأسيس شركات اقتصادية ممنهجة ومشاريع تنموية إذا نجحت ستساهم في تحقيق الهدف الأكبر وهو تطويق فرص نمو التطرف أو الاستغلال للأوضاع المصرية لصالح أحزاب سياسية مشدودة للخارج، إما من جهة التمويل أو من خلال اختراق الحياة السياسية التي في أشد أوقاتها احتياجًا لاستقرار طويل الأمد يصحح الأوضاع بعد سنوات من الاختلال الذي تسببت به رياح الربيع العربي وجرفت المنطقة.
«سنوات الاختلال» مفتاح مهم جدًا ورد في كلمة خادم الحرمين الشريفين، في إشارة إلى أن هذه الزيارة التاريخية تؤسس لأمر أكثر أهمية من مجرد التحالف السياسي أو الإنعاش الاقتصادي لقلب مصر، حيث أكد أن التعاون مع مصر من شأنه أن يعجل ملف الحرب على الإرهاب.
تجار الحقائب السياسيون والمحللون المتحدرون من تيارات قومية ويسارية استبقوا الزيارة التاريخية بكثير من الأوهام حول تنازلات هنا أو هناك، في حين أن الحالة المصرية، منذ سقوطها في فخ الفوضى قبل إعادة الشعب للأمور إلى نصابها عبر دعم مساند من الجيش، محل اهتمام السعودية منذ اللحظة الأولى، رغم عدم رغبتها في القفز على رغبة الشعب المصري آنذاك، فإنها دعمت استقرار البلد في أكثر من مأزق سياسي أو اقتصادي، وفي المقابل ومع كل التحولات السياسية الإقليمية التي تعيشها المنطقة لا يمكن القفز على ثقل مصر باعتبارها الحليف الاستراتيجي القادر على المضي مع رؤية الحزم للملك سلمان في الحفاظ على مكتسبات الاستقرار واستعادة منطق الدولة الذي اختطف في أكثر من بلد عربي، ولا ترغب دول الخليج في أن يحدث ذلك لمصر لأسباب تتصل بمتانة العلاقة وتاريخيتها ودور مصر الإقليمي، الذي متى ما تمت استعادة حيويته فسيساهم بشكل فاعل في إعادة فتح كل الملفات العالقة بين الدول العربية في محاولة لاتحاد وجهة نظرها تجاه على الأقل ملف الإرهاب ومسبباته في المنطقة، على الرغم من الخلافات التي تظل في حدودها الدنيا، وهو أمر متفهم في سيادة الدول وعالم السياسة، وإن كانت الجماهير تنظر عادة إلى العلاقات بين الدول على طريقة الفوز والظفر والغلبة، كما نشهد في صراعات الديكة على القنوات الحوارية في كل ملف إقليمي يتم طرحه.
الزيارة سبقتها خطوات اقتصادية ودعم مباشر لمعالجة نقص احتياطات العملة إلى مستويات متدنية، وهي رسالة مباشرة من القيادة السعودية بأنها لن تتخلى عن دولة بحجم دولة مصر وتأثيرها، وهو أبعد من ربط ذلك بأي جهة أو حزب أو تيار، كما يحاول مصطادو المياه العكرة تفسير هذا التوجه السعودي الذي يسعى إلى ترميم خرائب الدول العربية التي تهشمت بناها الأساسية بعد الثورات التي كشفت عن انقلابات مقنعة واختطاف المشهد السياسي بالكامل.
ترسيم الحدود السعودية الآن بشكل كامل وقانوني خطوة تأتي استكمالاً للحدود الأخرى التي تم ترسيمها بنجاح بهدف قطع الطريق على أي محاولات محتملة للاستغلال السياسي، الذي عادة ما يتم فيه فتح ملفات قديمة عالقة في أزمنة الأزمات، كما أن التعاون المصري - السعودي المعتزم تدشينه في الحرب على الإرهاب سيكون في أفضل حالاته، لا سيما بعد أن تحدثت تقارير كثيرة عن خطورة الوضع في سيناء، بعد أن حاول الإرهابيون من «داعش» و«القاعدة» والجماعات المسلحة كـ«أنصار بيت المقدس» استدراج الأهالي والقبائل عبر رفع شعارات سياسية وادعاء أن المنطقة مهملة، وهي دعاوى من السهل نقضها سياسيًا، إلا أن إنعاش المنطقة اقتصاديًا وملأها بالحياة والفرص الاستثمارية أقوى رد على الإرهاب ومعتنقيه الذين يحاولون اتخاذ سيناء قاعدة تهريب واسعة إلى مناطق توتر أخرى خصبة مثل ليبيا، بعد أن ضاقت بهم مناطق التوتر في العراق وسوريا، ومن المؤكد أن إعادة سيناء إلى وضعها الطبيعي هو قطع الطريق على «داعش» لانتقالها بالكامل إلى ليبيا ومن ثم المغرب العربي.. هذا الحرص السعودي على قطع دابر الإرهاب يأتي مع برود المجتمع الدولي في اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة، بل على العكس تتحدث تقارير صحافية أن إدارة أوباما تفكر جيدًا في إخلاء قاعدة العريش ونقل القوات متعددة الجنسيات بقيادتها في سيناء.
السياسة الاستباقية السعودية الجديدة، هي رسالة مزدوجة سياسية وأخلاقية وفي توقيت استثنائي، بهدف تكثيف كل الاعتراضات التي تعاني منها دول الاعتدال في المنطقة لحماية حدودها من الإرهاب وتدعيم الاستقرار والاهتمام بقضايا المنطقة بعد تردي طريقة أداء المجتمع الدولي ومؤسساته فيما يخص ملفات المنطقة.
التحول السعودي اليوم بسياسته الاستباقية يهدف إلى قطع الطريق على ما يسمى محور المقاومة الذي لا يسعى إلى استقرار المنطقة، بل إلى تكريس منطق سياسي براغماتي ذرائعي مبني على أسلوب الصفقات والتفاهمات وشرعنة التدخل السيادي للدول، بل والحرب بالوكالة والوقوف ضد إرادة الشعوب كما هو الحال مع سياسات طهران ووكلائها وأذرعها السياسية والمسلحة.
لم تزعم السعودية يومًا ما أنها ضمير العالم أو شرطيه، لكن سياستها تراعي مكانتها الدينية القيادية وقوتها الاقتصادية. لا شك أن البعد السياسي حاضر وبقوة، إذا ما استعرضنا مقدار الضرر الذي حل بمصالح دول الاعتدال، ومنها السعودية، بسبب الأداء المخيب في التفاوض مع إيران واحترام إرادة الشعب المصري وتجاهل الكارثة الإنسانية التي تحل بالشعب السوري والتقييم الخاطئ للوضع هناك، وفي أكثر من موقع من العالم الإسلامي الذي تشعر المملكة بمسؤولية كبيرة عنه، وهو ما جاء مكثفًا في تغريدة الملك سلمان أثناء زيارته لمصر: «لمصر في نفسي مكانة خاصة، ونحن في المملكة نعتز بها وبعلاقتنا الاستراتيجية المهمة للعالمين العربي والإسلامي. حفظ الله مصر وحفظ شعبها».
[email protected]