خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

عود للغة العيون

تمتد لغة العيون إلى سائر الأنشطة البشرية ولا تقتصر على الحب والغرام. نجد استعمالاتها في ميادين السياسة والرياضة والقضاء والحروب. يحدق كل طرف في عيني الطرف المقابل ليكتشف منهما نواياه واستراتيجيته، وأحيانًا لمقارعته وكسر عزيمته.
سمعنا الكثير عن الملاسنات السياسية بين الخصوم، استعمال اللسان في مخاصمة العدو لغويًا. ولكن هناك أيضًا المناظرات السياسية، في استعمال نظرات العين كسلاح في المنازلات والخصومات السياسية. يتجسم ذلك في الحياة البرلمانية وما يصاحبها من مناقشات ومناقضات وتحديات. اشتهر في ذلك وليم بت، الزعيم السياسي الذي لعب دوره الخطير في السياسة البريطانية خلال القرن الثامن عشر. كان يستعمل نظرات عينيه في إرباك خصومه عندما يهمون بالكلام. وصل ذلك إلى حد أن طلب أحد النواب، هيوم كامبل، من رئيس الجلسة، التدخل لحمايته عند كلامه من نظرات وليم بت.
كان وليم بت نائبا ليبراليًا يميل إلى اليسارية الشعبية. حاول أن يسخر منه أحد خصومه المحافظين عندما وقف ليخاطب المجلس: جلالة الملك، سادتي اللوردات، حضرات العموم، أو كما يفضل المستر بت أن يقول: «حضرات العموم، سادتي اللوردات، جلالة الملك..».. ما أن تكلم هكذا حتى وثب وليم بت من مقعده وطلب من كاتب المحضر أن يسجل هذا الكلام ثم صوب نحو النائب واحدة من نظراته القاتلة. ما كان من المتكلم غير أن يتلعثم ويفقد رباط جأشه وطرحه ويجلس.
وفي جلسة أخرى، ختم وليم بت خطابه وتوجه للخروج من القاعة، ولكنه قبل أن يجتاز الباب سمع أحد النواب يتهجم ويرد عليه فتوقف واستدار وصوب نظرة أخرى من عينيه بما جعل النائب المتكلم يتلعثم ويعتذر ويسحب ما كان قد قاله.
من المعتاد أن يجلس المحافظون في صفوف على اليمين ويجلس الأحرار والعمال على اليسار، وبينهم ميدان النزال فتراهم، كما رأيتهم، يحدقون دومًا في عيون الطرف المقابل، عسى أن يستخلصوا منها أفكارهم ومشاعرهم ومقاصدهم.
يصدق نفس الشيء في سباقات الكرة. يحرص اللاعب الجيد على استقراء عين اللاعب الخصم ليعرف منها عن نيته في الحركة. نلمس ذلك بصورة واضحة في ضربة الجزاء. فعلى حارس المرمى المقابل أن يقرأ في عيني الضارب ما عزم عليه في ضربته، في أي اتجاه ستكون فيستعد لها. وبعين الوقت على الضارب أن يقرأ في عيني حارس المرمى في أي اتجاه سيتحرك. إنها معركة عيون. أتذكر في هذه المعركة أحد كبار اللاعبين الألمان أنه كان يغطي عينيه بيديه عندما يقتضي عليه تسديد ضربة جزاء. وحالما يصفر الحكم ينزل يديه ويكشف عن عينيه ويسدد الضربة التي عزم عليها.
نرى ذلك في ميادين القضاء والتحقيقات أيضًا. يحاول القاضي أن يكتشف في عين المتهم ما إذا كان صادقًا أو كاذبًا فيما يقول. وبعين الوقت يحاول المتخاصمون أن يقرأوا في عيون بعضهم البعض نواياهم وعزائمهم ليعدوا أنفسهم للرد. إنها معركة العيون وحواراتها ولغتها.