خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الوحي الموسيقي

تأثر كثير من الموسيقيين بما سمعوه من أصوات. هكذا نرى تلك الأنغام الجميلة على الناي والفلوت التي أوحت بها البلابل والطيور. لكن كانت هناك مؤثرات صوتية أخرى. كان والد الموسيقار الفرنسي رافاييل، مصنع ومصلح ساعات (ساعاتي)، وتأثر ابنه موريس بأصوات دق الساعات التي سمعها في البيت طوال الوقت. أعطته دقات الساعة وتكتكتها الإيقاعية الرتيبة ميزة التكرار الرتيب في موسيقاه، كما في مقطوعته الشهيرة «بوليرو».
نلمس مثل ذلك في أوبرا «التروبادور» للمؤلف الإيطالي فاردي، فمن إيقاعاتها المهمة صوت المطرقة على السندان، مما كان فاردي قد سمع وقعه من الحدادين.
لمسنا ذلك في عالم الأدب. كل شعرائنا مدينون للفراهيدي الذي وضع أوزان الشعر، قالوا إن كثرة ارتياده لسوق الصفافير، وما سمعه فيها من الطرق الرتيب أعطته ذلك الإحساس بالوزن. رجع إلى البيت وجاء بطشت وراح يضرب عليه ذلك الإيقاع. وبانشغاله في اللغة كما نعرف، لاحظ أن ذلك الطرق المتكرر يذكره بإيقاع الشعر، فراح يطرق ويردد «فعولن، فعولن، فعولن»، وهكذا توصل إلى علم العروض. عاد ابنه إلى البيت فوجده على تلك الحال يطرق على طشت فارغ، فهرع إلى الناس يهيب بهم ويقول إن والدي مسه الجنون.
وهذا ما استدرج محمد القبانجي إلى عالم المقام. كان والده يملك مخزن حبوب في بغداد، واستخدم ابنه في وزن المبيعات من حنطة وشعير ونحوه. يرفع القبان ويقرأ الوزن ويملي به على الكاتب. وهذه عملية رتيبة، وليخفف من رتابتها وملله منها أخذ يملي أرقام الوزن بشكل غنائي. سبعين وخمسة وثلاثين كيلوو ووو..
حدث أن قارئ المقام الشهير من الرعيل الأول، رشيد القندرجي، مر بجانب تلك العلوة، فسمع الصبي محمد يفعل ذلك، ويغني الأرقام على إيقاع صعود القبان ونزوله. استمع إليه جيدًا ثم سأله مَن أبوك؟ أجابه بأنه صاحب العلوة. فذهب رشيد القندرجي إليه وكلمه وقال له: إن لديك هذا الولد، له صوت رخيم ويغني الأرقام كما لو كانت أغنيات على أوزان المقام. تعهد به وأعطه الفرصة ليتقن هذا الفن، فأمام هذا الولد مستقبل فيه بإذن الله.
الواقع أن كلامه أصاب أذنا مصغية، فقد كان أبو محمد ممن يعشقون المقام العراقي ويغنونه في المناسبات الأخوية. فاتبع نصيحة رشيد القندرجي وراح يشجع ابنه ويعلمه الأصول. وكان ما كان. فحصلنا على ذلك المقرئ العجيب لفنون المقام العراقي.
بيد أن عمله في المخزن أكد له أيضًا أهمية المهنة لكسب العيش. فما روى صديقي إبراهيم رزوقي أن القبانجي كان يعظ كل من مستهم هواية المقام فيقول لهم: لا تعتمدوا على الفن فقط فتهلكون جوعًا. ابحثوا عن مهنة تعطيكم لقمة الخبز ومارسوا الفن كهواية. وهكذا عاش أبو قاسم، يقرأ المقام ويلتزم بروح المخزن فيزاول التجارة! ذلك ما أعطاه هذه الروحية الاستقلالية في فنه. وهذا ما أفعله أنا أيضًا أكتب في السياسة، ولكن أعيش على الفكاهة. ونجد على غراره آخرين يتسكعون في المقاهي ويعيشون على الوطنية.