محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

البحث عن مبادرة فكرية عربية

بين ضجيج المدافع وطلعات الطائرات التي تقصف، وجب البحث جديًا عن مبادرة فكرية عربية، على الأقل تنير الطريق لغد عربي أفضل مما نعيشه اليوم. دون التفكير في تلك المبادرة، والاجتهاد لرسم خطوطها، سوف نظل ندور في حلقة مفرغة من العنف والعنف المضاد.
بين عامي 2001 و2011 عقد المثقفون العرب، في الغالب بدعوة من إحدى العواصم العربية، سبعة لقاءات كان عنوانها «مشروع الإصلاح»، بل وبعضها صار تتابعيًا وخصصت له منابر على الشبكة العنكبوتية ما زالت تعمل إلى اليوم، وفي نصف العقد الثاني من هذا القرن التأمت سبعة اجتماعات كبرى عربية تبحث فيما يمكن أن يسمى «الإصلاح الديني». ليس مهمًا أن أضع للقارئ أسماء العواصم أو المؤسسات المدنية أو الدينية التي دعت إلى كل من «الإصلاح المدني» أو «الإصلاح الديني»، كما ليس مهمًا استعراض الكتابات الكثيفة في الموضوعين، إنما كثافة تلك اللقاءات والكتابات في القرن الواحد والعشرين، واهتمام الدولة العربية وأيضًا النخب بها، تعني أن هناك «شيئًا ضائعًا في الفكر يجب أن يُبحث عنه!» بحثًا جديًا للخروج من المأزق الذي نحن فيه، وهو مأزق يمزق نسيج الأوطان، ويغرقها في حروب أهلية أو حروب بينية، تستنزف معظم طاقتها المادية والبشرية، وحتى الآن لا يبدو أن نورًا فضيًا يلوح في الأفق مبشرًا ولو من بعيد بطريق للخروج من الظلمات التي نعيش، وعمليات التفكيك التي نشهد.
ماذا تعني لمتابع كثافة تلك اللقاءات التي تبحث عن «الإصلاح» وتفاجئها الأحداث عاصفة ومتتابعة؟ من ضمن ما تعنيه أن العالم العربي في حالة «انفجار» تتلقف شظاياه جماعات ودول ومنظمات ترغب جاهدة في وراثة ما تبقى منه. المشهد العام يشي بذلك، فهناك الإنجليز والفرنسيون والروس والأميركان والإيرانيون والأتراك وغيرهم، يتوافدون على المسرح ويتطلعون إلى حصة جراء ذلك الانفجار العربي، كي تقع في حضنهم، تحت شعارات وأسماء وذرائع مختلفة.
يجب ألا نتجاهل العامل الأهم الذي يبذل جهدًا مضاعفًا لحصد نتائج الانفجار، وكسب أكبر حصة منه، والتسبب في أكبر صدع ثقافي/ سياسي يواجه أبناء المنطقة، وهو الدولة القومية الإيرانية من خلال ما تتخيله من تصدير الثورة، تحت عباءة «الإحياء المذهبي الشيعي» الذي في وقت ما أدى إلى «الإحياء المذهبي السني الجهادي» المضاد، أو على الأقل زاد من حدته وعمق تأثيره. الاثنان تلازما في مسار واحد بمصادمة الدولة الوطنية العربية، وأيضًا الولايات المتحدة والغرب عمومًا، هذا التصادم وظف لصالح النموذج الذي يؤمنان به، ويجهدان لسيادته على المنطقة، ولكن هذا التلازم أدى أيضًا إلى تصادم فيما بينهما في مكان آخر. الراديكالية السنية في تجلياتها الحالية هي رد فعل للراديكالية الشيعية، وترى الأخيرة أن الاستفادة من تلك الحركات للإطاحة بالدولة الوطنية العربية أو إضعافها، طريق للهيمنة عليها، وما استضافة عناصر معروفة من جماعات سنية مقاتلة مثل بعض قيادات «القاعدة» وحتى «داعش» في وقت أو آخر في إيران، إلا طريق للاستفادة التكتيكية من كراهية تلك الجماعات لكل من الغرب والدولة الوطنية العربية في وقت واحد، لأن الإطاحة بالدولة الوطنية أو إضعافها يسهل تمدد المشروع الشيعي/ القومي الإيراني. وهكذا رسمت خطوط الاشتباك، حتى لو حملت الدولة القومية الإيرانية إعلاميا على «الراديكالية السنية» الآن ووصفتها بالتكفيرية، إرضاء لغرب متخوف من الحركات التي تسمع قعقعة تفجيرات بعضها بقوة في جنبات مجتمعاتها.
في الصدام مع مشروع الإحياء القومي «الشيعي/ الإيراني» الذي اخترق الدولة الوطنية العربية وأعجزها عن القيام بأقل واجباتها، وأطلق في مكان ما جيوش المجندين، كما يحدث في لبنان، لتدريبهم على مهمات إعلامية واستخبارية وحتى قتالية لتقويض الدولة الوطنية العربية، تُركت حرب المفاهيم وأدوات الصَّد وحُروب الأفكار، إلى طائفة واجهت «التعصب» بالتعصب المضاد، وأخذت الأخيرة على عاتقها القيام بمشروع حفريات في الفكر العربي في مراحله العصيبة التي أنتجت فكرًا غير عقلاني منحرفًا عن مبادئ الإسلام، وفي بعضه خرافيًا مصطنعًا، عاد إلى نبش قبور «الغلاة» وتجرأ على نصوص وأفكار وحملها تفسيرات عُنفية، ثم قدمت للشباب خارج المكان والزمان، على أنها «الإسلام الصحيح» من أجل مواجهة المشروع الإيراني القومي المتكئ على المذهب الشيعي، فزادت الطين بلة من هذا الاقتراب الخطر، وجرفت وراء هذه التفسيرات تعصبًا لجماعات سنية صغيرة الحجم فاتكة الأداء، أدى في مرحلة إلى حمل السلاح من البعض حتى ضد أهله، لتضيف على منطق العنف العاري غطاء آيديولوجيًا براقًا. كما فككت الوعي الشيعي العربي وقسمته، وفي بعض منه تبع، دون قيد أو شرط، المشروع الإيراني، وفي الطريق فككت قدرات الدولة المدنية العربية أو أضعفتها. وقد زاد في التقسيم إصرار الدولة العميقة على أن تعالج الأمور بطريقتها التقليدية، دون حساب، ولو بالحد الأدنى، للمتغيرات الحادثة في الإقليم وفي العالم.
أول ضحايا الصدام هم كثرة من الشيعة العرب، الذين أدخل في وعيهم أن تغيير معايير المجتمع والدولة التي يعيشون تحت ظلها، هو بالانضواء تحت مفاهيم ومظلة أخرى غير الدولة الوطنية، وأن اللجوء للدولة «حامية الطائفة» هو منجاة من استدعاء حفريات الماضي الفكرية المتجمدة ضد الآخر من البعض، وتحقيق نفعية دنيوية. وبالتالي، توارت ثقافة المواطنة خلف جبل من التصورات غير الواقعية، يغذيها الخوف من جهة، ورواج التعميم لأفكار الكراهية من جهة أخرى، وإغراءات مادية أو سياسية للبعض، مما زاد من نسبة الارتياب لدى مواطنيهم، هذا الأمر خلق ديناميكية جهنمية في المنطقة أطلقت كل الشرور، غير مكترثة أو متأثرة بالتطور الحضاري والإداري للدولة الحديثة. تطلع حزب الله إلى قم، ونُفذ انسياق غير مسبوق للتخندق الطائفي في العراق، وكراهية للدولة المركزية في اليمن، جعل الحج إلى طهران مقبولاً ومستساغًا بل ومدافعًا عنه لدى البعض، وأصبح اتباع نصائح المرجعيات الدينية الأكثر تأثيرا في الشأن السياسي، فاستطاعت مرجعيات العراق مثلاً أن تخلق جيشًا بين يوم وليلة من نوع وطائفة واحدة، هو «الحشد الشعبي»، كما أن التناقض الواضح والصارخ بين تأييد «متكبر» هنا، ومحاربة «متكبر هناك» لا يظهر في وارد الحسابات الإيرانية، فكيف يمكن لدولة أن تدعي نصرة «المستضعفين» على «المستكبرين» التي تنادي بها ليل نهار، أن تتحول إلى نصرة «مستكبر/ علوي» في دمشق ضد أكثرية «مستضعفة» في سوريا! هذا التناقض الذي يؤدي في التفكير العاقل إلى القول إن المسألة برمتها سياسية/ مصلحية، يدفن لدى البسطاء خلف جبل من التضليل الإعلامي الموكول إلى شرائح تابعة لنظام طهران، التي أطلقت «الموجة الثالثة»، كما يسميها رضوان السيد، من الصراع المذهبي السني/ الشيعي، الذي أصبح عدد من العواصم الغربية تجهر به، ويقابله بعضنا، حتى على المستوى الفكري، بالإنكار.
ليس أمام الدولة الوطنية العربية طريق للخروج من هذا البحر المتلاطم والمتناقض الأهواء الذي تلعب فيه المصالح القومية الدور الأهم، وإن خلف الستار، إلا محاولة من خطوتين: أولاً، ترشيق الإحياء الديني الإسلامي على قواعد من الفهم الصحيح الخالي من التوظيف السياسي. وثانيا، تشجيع، من جهة أخرى، نهوض ثقافي عربي يساير المتغيرات الدولية في إطار من الدولة الوطنية المدنية العادلة، يعمل هذا المشروع الفكري على وضع الخطوط الواضحة بين مهمات الدولة ورسالة الدين، تلك هي الاستراتيجية المرتجاة التي يجب أن توظف فيها العقول والموارد!
آخر الكلام:
إطلاق الغرائز الطائفية في الفضاء العربي يُثير غبارًا تتراجع خلفه الحكمة، ويشجع ظهور الفرق الدينية المنحرفة.