غسان الإمام
صحافي وكاتب سوري
TT

الأبعاد التاريخية والطائفية لمعركة الغاب

يبدو أن صاروخ «تاو» الأميركي لم يحسم تماما المعركة بين تنظيمات المعارضة السورية المسلحة، ودبابات ودروع جيش بشار. دارت المعركة على بوابة مدينة حماة الشمالية الغربية المطلة على سهل الغاب الخصيب ذي الخضرة التي تحتضن قرى علوية وسنية مرشوشة على طول مجرى نهر العاصي الذي يروي السهل.
وفي غياب التغطية الإعلامية الأمنية، عن ميدان القتال، تدعي التنظيمات الدينية المسلحة أنها حققت النصر. وأحبطت هجوم القوات النظامية، فيما تدعي هذه القوات أنها حققت اختراقا، ومازالت تتقدم تحت حماية طائرات سوخوي الروسية.
ويهدف الهجوم النظامي إلى إقصاء هذه التنظيمات عن سهل الغاب. وحرمانها من التسلل عبر الجبال المحاذية للسهل، لتهديد «قلعة» النظام الطائفية في محافظة اللاذقية الساحلية. أو لقطع طريق دمشق/ حلب. كما يهدف الهجوم إلى تأمين سيطرة النظام على مدينة حماة ذات الغالبية السنية.
ويعتبر النظام هذه المدينة وشقيقتها حمص في جنوبها، جوهرتين في جيد «سورية المفيدة» الممتدة بين دمشق واللاذقية، كأرض لدولته الطائفية، إذ جرى تقسيم سورية إلى دويلات «كانتونية» طائفية وعنصرية، في التسوية السياسية النهائية.
ويقود الهجوم النظامي العماد علي أيوب رئيس أركان الجيش السوري الذي يصفه أنصار النظام بأنه «بطل» إحباط الهجوم الاسرائيلي على سهل البقاع، للاقتراب من دمشق في عام 1982. وقد جمع العماد أيوب عدة كتائب من الفرق القليلة الباقية من احتياطي الجيش النظامي المنهك الذي استنزفته حروب السنوات الأربع الأخيرة.
وحرب الغاب هي أول اختبار للوجود العسكري والسياسي الروسي في سورية، لحماية نظام بشار. وقد دعم العماد أيوب هجوم قواته النظامية، بألوف من مرتزقة «حزب الله» والميليشيات الشيعية العراقية والإيرانية التي يقودها ضباط الحرس الثوري الإيراني.
والطريف والخطير في آن واحد، تهديد بشار في تلفزيون إيران و»حزب الله» بـ»تغيير المنطقة كلها»، إذا لم ينجح الحلف الرباعي (الروسي. الإيراني. العراقي. السوري) بوقايته من «الإرهاب الديني» في سورية. الواقع أن نظام بشار نجح إلى الآن في تفجير وتمزيق سورية كدولة. وكيان. وسكان. وأمن. واستقرار. يبقى عليه أن يشرح كيف سيدمر المنطقة الملتهبة والمتفجرة أصلا.
ولا يمكن فصل معركة الغاب عن المعارك بين التنظيمات الدينية المسلحة والقوات النظامية الجارية على تخوم محافظة إدلب مع محافظة اللاذقية. أو في مدينة حلب الموزعة بين قوات النظام والتنظيمات. أو في ريف حلب الشمالي المجاور للحدود التركية، حيث استغلت «داعش» الغارات الروسية على التنظيمات الدينية. فشنت هجوما مباغتا انتزعت فيه مزيدا من الأرض التي تسيطر عليها التنظيمات الدينية. أو قوات النظام. ويشير مقتل الجنرال الإيراني حسين همداني في الهجوم «الداعشي»، إلى مدى تورط إيران في التدخل العسكري المباشر في سورية.
وكانت التنظيمات الدينية المسلحة قد استكملت في هذا العام احتلال كامل محافظة إدلب. وراحت تقصف المناطق العلوية في محافظة اللاذقية، من جهة، والتوسع من جهة سهل الغاب وصولا إلى ريف حماة. وكان هذا التوسع أحد أسباب التدخل العسكري الروسي المباشر، بعد فشل فيالق المرتزقة الإيرانية. والعراقية. واللبنانية، في إقصاء هذه التنظيمات (السنية) عن المواقع التي احتلتها في إدلب. وسهل الغاب.
خففت أميركا نشاط طيرانها ضد «داعش» في سورية، تجنبا للصدام مع الطيران الروسي. وتقدم حلف «الناتو» لتأكيد حمايته لحدود تركيا (الأطلسية) من مضايقة الطيران الروسي للطيران التركي. لكن الحلف يستخدم لغة الحرب الباردة المقيتة في استفزاز روسيا بوتين. وكان الحلف قد تقدم بتشجيع من أميركا، لحصار روسيا، بعد ضمة دول بحر البلطيق وأوربا الشرقية، وصولا إلى أوكرانيا، حيث حال بوتين بالقوة دون سقوطها في قبضة الحلف.
كانت سورية كبش الفداء. فقد تدخلت روسيا فيها، للانتقام من حصار «الناتو»، ومن عقوبات أميركا وأوربا التي بددت ازدهار الاقتصاد الروسي. وهزت شعبية بوتين لدى الروس.
لكن هذا التدخل كان خطأ محكوما بسوء الحظ. فقد جرى من ثقب الباب. بدلا من أن يبشر بوتين السوريين والعرب بالسعي إلى تسوية سياسية، فقد عمد فورا إلى دعم النظام القمعي المتهالك والمرفوض شعبيا. وإلى التنسيق مع إيران والعراق في مساندة النظام. وبدلا من شن حرب حقيقية على «داعش»، فقد اجتاحت الغارات الروسية التنظيمات الدينية المدعومة عسكريا من أميركا وتركيا.
في رؤيتي السياسية، ألجأ دائما، بقدر ما يسمح المجال هنا، إلى رواية التاريخ السياسي الحديث، لتفسير ما يجري في الحاضر. المؤسف أن نظام السبعينات القمعي حذف هذا الماضي التاريخي من ذاكرة الأجيال العربية الجديدة. فباتت الأجيال السورية المتعاقبة، لا تعرف سبب عدائية النظام الطائفي العلوي لأغلبيتها السنية في سورية. ولرهانه على الطائفة الشيعية في لبنان ضد الطائفة السنية واغتياله لزعمائها السياسيين والدينيين، فيما كانت دائما مرتبطة بعواطفها القومية مع سورية.
كنت شاهدا على ارتكاب زعماء البعث القومي والاشتراكي (عفلق. البيطار. الحوراني) الخطأ التاريخي بعسكرة الطائفة العلوية، ضد اليمين الليبرالي والإقطاعي (السني). وعندما تمكنت الكتلة العسكرية العلوية من السيطرة على الجيش بعد انقلاب عام 1963، غدرت بالقوة بقادة البعث الثلاثة.
دانت اللعبة الطائفية والسياسية لوزير الدفاع حافظ الأسد المسؤول عن هزيمة النكسة أمام اسرائيل (1967). فقد تمكن من إقصاء شريكه اللدود صلاح جديد، منتهزا توريط الأخير للجيش السوري في غزو الأردن (1970)، بحجة إنقاذ عرفات من جيش الملك حسين.
في السبعينات والثمانينات، رفض الأخوان المسلمون قبول الشارع السني بترئيس ضابط علوي. وشنوا تحت شعارات طائفية صارخة حملة اغتيالات لأطر (كوادر) النظام العلوية. ثم اقتحموا مدينة حماة. فبادروا إلى ذبح الإداريين البعثيين مع أسرهم. لكن النظام تمكن من توجيه ضربة قاصمة لهم بوحشية دموية، مستغلا خطأهم بالاعتصام في المدينة (1982).
في غياب الديمقراطية والمساءلة الشعبية، تورط نظام الأسد الطائفي بفساد مروع للإثراء باحتكار الموارد في سورية. وابتزاز الناس في لبنان. كان الأمل في الوارث بشار لكي يبدأ عملية تغيير إداري. وسياسي. ثم تبين أنه لا يملك حتى حذر أبيه وذكائه، في إدارة اللعبة الطائفية، ولا الفطنة السياسية في الحفاظ على التوازن بين حلف النظام مع إيران، وعلاقته المحورية مع عروبة مصر والسعودية. وعندما انفجرت الانتفاضة السلمية والليبرالية في وجهه، واجهها بقمع أدى إلى عسكرتها. واستيلاء التنظيمات الدينية المعتدلة (الأخوانية) والمتزمتة، عليها.
الحكم فن. عرف صلاح جديد كيف يصفي خصومه الناصريين والليبراليين. ولم يعرف كيف يحكم. كسب عبد الناصر شعبية نادرة. ولم يعرف كيف يورث. عرف حسني مبارك كيف يحكم. ويقهر العنف الديني والتزمت الإخواني. ولم يعرف كيف ينسحب في الوقت المناسب. وصل بشار إلى الحكم بالمصادفة النادرة. فما عرف كيف يدير. ويحكم. ويداري انتفاضة سلمية، كان من السهل استيعابها بحكمة لا يملكها.
عاد الإخوان المسلمون إلى لعبتهم الطائفية. فورطوا تركيا. وقطر، في دعم. وتسليح. وتمويل تنظيمات دينية مسلحة، لا تدري بعد التدخل الروسي، كيف تخلع رداء تزمتها. وتعلن عن اعتدالها أمام عالم مفجوع بإرهاب «داعش» و»جبهة النصرة». تستقبل أوروبا مليون شاب سوري موَّلوا بأنفسهم هجرتهم من نظام لا يداري. واحتلال إيراني حلم بتشييعهم. ومن تدخل روسي يحلو للأميركيين استنزافه بصاروخ «تاو».